الدائرة السوداء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989
أنا يا سيدي
فتاة أبلغ من العمر ٢٦ عاما أتمتع بقدر لا بأس به من الجمال بشخصية جذابة وعندي
القدرة على اكتساب مودة الآخرين بل وأحيانا صداقتهم بسهولة كبيرة ، كما أني جريئة
نسبيا ومندفعة في
بعض الأحيان ويمكن أن أخوض بعض التجارب التي لا اعرف إلى أين تقودني وهذه هي الكارثة
! .. فخلال دراستي الجامعية تعرفت على مجموعة من الأصدقاء والصديقات فكنا نقضي
وقتنا معا في النادي أو في الذهاب للمحلات لشراء ما نريده أو في الذهاب إلى
الفنادق الكبيرة لتناول الشاي والجاتوه في جو من الزمالة والصداقة
البريئة وكانت حياتنا كلها مرحا في مرح ثم انضم إلى شلتنا عضو جديد واندمج معنا
بسرعة غريبة .. وذات يوم جاء إلينا ونحن في جلستنا المعهودة فلاحظنا عليه أنه في
حالة من النشوة غير عادية وسألناه عن سرها فأخرج من جيبه ورقة بيضاء صغيرة ووضعها
أمامنا وقال هذا هو السر .. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها ما يسمونه "بالتذكرة"
المشئومة أي تذكرة المسحوق الأبيض اللعين .. ولن أطيل عليك فبدافع من الاستطلاع
والرغبة في التجربة ومعرفة المجهول بالنسبة لنا امتدت أيدينا إلى التذكرة اللعينة
وتناولت أنا أول جرعة من السم في حياتي .. وخلال فترة قصيرة جدا كنت قد تحولت وأنا
ابنة الأسرة الطيبة الكبيرة إلى مدمنة لهذا السم المدمر فغرقت فيه حتى انفي ..
وخسرت بسببه صحتي ومالي بالآلاف ، وسيارتي ومصاغي وفقدت ثقة أهلي الذين لم يتصوروا
أبدا أني ممكن أن انزلق إلى هذه الهاوية .. وانفض عني الأقارب والصديقات المحببات إلى
قلبي وهؤلاء هن أكثر من حزنت و ندمت لخسارتهن وبعد قليل افتضح أمري في أسرتي بعد أن
تدهورت أحوالي .. فأخذت الأسرة بيدي وتعاونت لإنقاذي وتم علاجي وانقطعت عن السم
لفترة .. ثم انزلقت إليه مرة أخرى وعولجت ثانية وانقطعت عنه ثم عدت إليه مرة ومرات
وتجرعت كئوس العذاب التي لا ارجوها للعدو قبل الصديق.
وخلال هذه المعاناة وقفت مع نفسي الأمارة بالسوء وقفة طويلة واسترجعت شريط حياتي ورأيت التدهور الذي انتهيت إليه بعد أن أصبحت إنسانة غير سوية في تصرفاتي مع أهلي ومع الناس وبالذات مع أهلي الذين تحملوا مني ما لا يتحمله بشر ومع ذلك فلم يفقدوا الأمل في أن يتولاني الله برحمته وينقذني من هذا الهوان وقررت أن انتشل نفسي مما ترديت إليه واستجاب الله لدعاء أسرتي ودعائي ومن علي بالشفاء وبالنجاة من هذه الهاوية بعد أن تعذبت فيها عذابا أليما إلى حد أني الآن احمد الله على أني لم انزلق خلالها إلى الرذيلة ولم افقد شرفي وأعز ما أملك في أتون هذا الجحيم ! نعم إلى هذا الحد يا سيدي كان من الممكن أن أتدهور لكن الله حماني منه لرغبتي المخلصة في إنقاذ نفسي ورأفة بحالي وبأهلي الذين تعذبوا بي ومعي حتى أنقذني الله من الإدمان ونصرني في معركتي معه فجاء الشفاء من عنده وعدت لنفسي وحياتي .. وقد مضت الآن سنة ونصف السنة أي ۱۸ شهرا كاملة دون أن اقترب من هذا الهلاك .. ولن أقربه مرة أخرى حتى أموت بعدما عرفت بالثمن الغالي ماذا يفعل بالإنسان وماذا يدمر فيه .. وكيف يستعبده ويذله ويحطم حياته وخلال وقت قصير استرددت صحتي الذاهبة وعادت إلي من جديد شخصيتي التي سلبت مني فعدت مرة أخرى الشخصية الجذابة التي يلتف حولها الآخرون وقطعت صلتي بالشلة القديمة خاصة أنها مازالت غارقة في الجحيم ولم ينج منهم أحد غيري وقد أصبحت الآن أخاف من مجرد الاقتراب منهم حتى لا يجروا قدمي مرة أخرى إلى الهاوية التي أنقذني الله منها ... ولم أفكر حتى في محاولة إنقاذ بعضهم منها لأني أخشى إن حاولت ذلك أن يجذبوني إلى هاويتهم فأكون كمن حاول إنقاذ غريق فشده معه إلى أعماق البحر واستبدلت صداقاتي القديمة بصداقات جديدة تليق بي وبأسرتي.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
يخيل إلي يا آنستي
أن أمرك لن يخفى عليه طويلا وأنه سيعرف به إن أجلا أو عاجلا .. فإذا كنت على يقين
من أن علمه به لن يكون له ثمن آخر سوى فقدك له وتخليه عنك فإن تأجيل مصارحتك له به
لن يكون سوى تأجيل مؤقت للانفجار مع استمرار ترقبك له وتوجسك منه مما يعرضك لقلق
نفسي مدمر أنت في غنى عنه الآن وبعد هذه التجربة المريرة .. خوفا من تأثير
المعاناة والقلق على صلابتك وقوة إرادتك . فضلا عن أن علمه به من غيرك سوف يدمغك
عنده بالرغبة في خداعه ولن يتيح له بكل تأكيد أن يتعرف على صدق ندمك على تجربتك
القاسية أو يطلع عن قرب على ما عانيته وبذلته من صحتك ودمك للنجاة منه إلى غير
رجعة .. فيتصور خطأ أنك يمكن أن تعودي إلى الهاوية في أي لحظة وربما تمادى في سوء
الظن إلى الاعتقاد بأنك لم تنجي منها .
لهذا فالأفضل أن يجيء الخبر منك أنت ، لأن الاعتراف دليل أكيد على الرغبة في التطهر من الإثم .. وفى حبك له وحرصك عليه ورغبتك في بناء حياتكما على أساس متين من الثقة والمصارحة ، فإن تجاوز عن هذه النقطة السوداء في ثوبك مؤمنا بأن صدق التوبة يمحو الآثام والذنوب فلقد كسبت سندا قويا لك تستطيعين أن تشاركيه حياتك وأنت مطمئنة إلى أنه لن يتخلى عنك عند أية أزمة عابرة وإن عجز عن أن يغفر لك ما يغفره الله سبحانه وتعالى للبشر إذا صدق ندمهم فلقد انتهت التجربة بالنسبة لك بأقل الخسائر الممكنة .. وقبل الزواج والإنجاب وتعريض بريء أو أبرياء لأن يدفعوا ثمن جريمة لم يرتكبوها .. ولتنتظري من هو أصدق فيك رغبة وأكثر استعدادا للتضحية من أجلك ولا لوم عليه ولا على أحد في ذلك لأن من حاد عن الطريق القويم في فترة من فترات حياته عليه أن يدفع ثمن تجربته راضيا وأن يتحمل تبعاتها بشجاعة وأن يبذل أضعاف ما يبذله الإنسان العادي من جهد للالتزام بالسلوك القويم والقيم الأخلاقية لكي يتطهر من أدران التجربة ويستعيد ثقة الآخرين فيه واعتباره عندهم .. فإذا حدث ذلك فلن يطول به الانتظار .. حتى يكتسب ثقة مجتمعه بعد أن اكتسب هو الثقة في نفسه .. ولا شك أن ذلك أفضل بكثير من أن تعيشي حياتك فوق قنبلة زمنية لا تعرفين متى تنفجر وإلى أي مدى سيكون تدميرها ، فواجهي هذا الاختبار الجديد بنفس الشجاعة التي واجهت بها نفسك من قبل وتغلبت على أهوائها المدمرة .. وليغفر الله لك ما اقترفت في حق نفسك وأسرتك ومجتمعك .. ولتكن رسالتك هذه صرخة جديدة في وجوه المخدوعين بوهم النشوة الكاذبة التي تدمر النفوس والأجسام والقيم والتي جعلت من فتاة من أسرة مرموقة مثلك لا تجد ما تفخر به في سياق ما ترويه عن تجربتها البشعة سوى أنها لم تنجرف إلى الرذيلة فلم تخسر شرفها مع ما خسرته من أشياء عديدة وثمينة في سبيل هذا الوهم الأسود ولا حول ولا قوة إلا بالله.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر