الهاتف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
تزوجت كما يتزوج غيري من الناس فقد كنت معارا للعمل في دولة عربية فعدت في أجازة الصيف وبحثت عن زوجة تقبل السفر معي فأرشدتني أسرتي إلى فتاة يتيمة الأب على استعداد للزواج والسفر ورأيتها فأعجبتني شكلا، وتم الزواج خلال أسبوع واصطحبتها معي إلى مقر عملي وهناك تكشفت لي عصبيتها الشديدة لكننا عشنا باقي سنوات الإعارة بخيرها وشرها وعدنا إلى مصر فاستأجرت شقة واسعة وأثثتها وعشنا فترة من الهدوء لم تستمر أكثر من ٣ شهور ثم تفجرت بعدها براكين عصبيتها فطلقتها في إحدى المشادات وتركت لها الشقة وعدت لأقيم مع أبي وبعد فترة قصيرة ذهبت إلى شقتي فوجدتها على البلاط فسلمت مفتاحها لصاحب العمارة وبعد شهرين اشتقت إلى رؤية أطفالي فأعدتها إلى عصمتي وبدأت أبحث عن مسكن يجمع شملنا من جديد .. وكانت لدي قطعة أرض في المهندسين اشتريتها من مدخرات سنوات الإعارة فبنيت عليها فيلا صغيرة جميلة، وسكنا فيها وأنا أحلم بأن نعيش أيامنا الباقية في سلام ، ولكن هيهات فلقد راحت تضغط علي بشدة لأبيع الفيلا لكي تجد نقودا سائلة في يدها تنفقها على مظهرياتها ، لأنه لم يعد لي دخل سوی مرتبي كموظف كبير وهو لا يكفيها وقاومت فكرة البيع طويلا حتى لم تعد لي طاقة على المقاومة فاستسلمت وبعتها ببضعة ألوف من الجنيهات وقبل شهور فقط من حرب أكتوبر ولو صبرت هي على بيع الفيلا عاما واحدا لبعتها بأكثر من مائتي ألف جنيه، لكن كيف تصبر وهي تريد أن يتحقق كل ما تطلبه في التو واللحظة.
وعدنا بعد الفيلا الجميلة نقيم في شقة وكبر الأولاد
وتخرجوا وأحلت إلى المعاش بعد أن بلغت أعلى المناصب وكانت لدينا شغالة غادرتنا بعد
ارتفاع الأجور .. فظلت زوجتي تضغط علي لأحضر لها غيرها فكان اقل مرتب طلب
منا يعادل قيمة معاشي من الحكومة بعد خدمة 36 سنة فعجزت عن إحضار شغالة وزادت
العلاقات توترا حتى انفجرت ذات يوم وأصرت على أن تأخذ كل معاشي وتتصرف فيه
بمعرفتها ورضخت .. ومضت الأيام تعيسة كحالنا منذ سنوات طويلة وغادرنا الأبناء بعد أن
تزوجوا ولم يعد في السكن غيري وغيرها فلم تطق البقاء فيه واشترت لنفسها سيارة
صغيرة وأصبحت تقضي كل أوقاتها خارج البيت وتتركني وحيدا، فلذا عاتبتها عايرتني بأنها
أصغر مني بعشر سنوات وتريد أن تعيش حياتها ثم بدأت تحرض أبنائي علي ثم هجرت البيت
وأقامت مع أمها بلا سبب لكي ترغمني على أن أسلمها آخر ما بقي لي من ثروة، وتركتني أعيش
وحيدا في الشقة وهي تعلم عني أني لا اعرف شئون البيت .
ومر شهر علي وأنا أعيش وحيدا وقد بعدت الزوجة التي عاشرتها ثلاثين عاما وانشغل الأبناء بحياتهم ووجدت نفسي أفكر فيما صنعت بحياتي خلال هذه الأعوام الطويلة واتجهت بقلبي إلى الله عز وجل أن يلهمني الصواب .. وفي إحدى الأمسيات كنت جالسا وحيدا في الشقة أتفرج على التليفزيون ولا أرى منه شيئا فشعرت فجأة بهاتف يهتف في صدري طلق هذه المرأة التي أشقتك ثلاثين عاما وهجرتك في ضعفك وشيخوختك وغرست في أبنائك الذين أفنيت عمرك في تربيتهم التباعد والانشغال عنك وكنت وقتها جالسا أحس بثقل وآلام في جسمي من الألم النفسي .. فنهضت وقد انزاح عني التعب فجأة وخرجت بخطوات نشيطة إلى أقرب مأذون بالحي وطلقتها بعد ثلاثين عاما من الجحيم والعذاب.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
ذكرتني رسالتك بما قرأته يوما من أن هناك أزواجا
وزوجات ومطلقين ومطلقات لكن هناك أيضا نسبة كبيرة ممن لا يندرجون تحت هذا ولا ذاك
هم من يمكن أن نسميهم فئة غير المطلقين ! أي فئة من استحالت بينهم الحياة لكنهم
لآلاف الاعتبارات الاجتماعية وأهمها الأبناء والحرص على عدم الإساءة إليهم لا
يستطيعون الاستجابة لمثل هذا الهاتف ، الذي هتف بصدرك فجأة بعد ثلاثين عاما من
الاحتمال .. ويبدو يا سيدي أنك كنت من هذه الفئة التعسة خلال رحلتك الطويلة ومع
ذلك فلربما كان من الأفضل ألا يكون مسك الختام هو الإقدام على الطلاق بعد هذا
العمر الطويل حرصا على الشكل العام للأسرة ودفعا لحرج الأبناء أمام زوجاتهم وأزواجهم
لكن ما جرى قد جرى ومادامت قد مضت سنة طويلة بغير أن يفلح الأبناء في إعادة شملكما
مرة أخرى . ومادمت عاجزا فعلا عن استئناف الحياة على علاتها معها فلا لوم عليك في
أن تفكر في الزواج مرة أخرى طلبا للإيناس والصحبة في مثل ظروفك، خاصة وقد أسهم الأبناء
في تعقيد المشكلة بتباعدهم عنك ولو أنصفوا لما هجروك وما ابتعدوا عنك في هذه
المرحلة من العمر التي تحتاج فيها إلى رعايتهم ومودتهم ليس فقط أداء لواجباتهم
تجاهك وإنما أيضا لأن اقترابهم منك كان من الممكن أن يسهم في رأب الصدع.
على أية حال لا يملك أحد أن يلومك على ما فعلت لأن النفس كالإناء تفيض إذا امتلأت بما تضيق به .. ومن حقك أن تستعين على وحدتك وعلى أمرك بمن تشاركك أيامك وحياتك .. فابحث عمن تناسبك في السن وتتماثل ظروفها مع ظروفك وتكون في حاجة إلى الرفيق كما أنت في حاجة إليه ودقق في الاختيار قبل أن تقدم على التجربة هذه المرة لكي تستمتع بالهدوء وأنس الصحبة ويظل الهاتف نائما في الصدور إلى النهاية، فنوم هذا الهاتف عبادة لعن الله من أيقظه.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر