الرحيل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989

 

الرحيل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989


 الرحيل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1989



أنا شاب أبلغ من العمر عشرين عاما .. شاء القدر أن يحرمني من طفولتي وعمري عامان فقط فقد وقع خلاف بين أبي وأمي وأنا في هذه السن وانتهى بالطلاق ، فتزوجت أمي من غير أبي، وتزوج أبي من غير أمي ، وعاش كل منهما في بيته وأسرته، وعشت أنا مع جدتي لأمي ، وكان أبي يزورني كل فترة، ثم انقطع عن زيارتي نهائيا وكانت أمي تزورني من حين إلى آخر .. لكني مع ذلك حرمت منها فلم أرتو من حنانها ولم أنم بين أحضانها وأنا طفل صغير ، ونشأت وحيدا محروما لا يقدم لي أبي أو أمي أية مساعدة ، فاضطررت وأنا لم أبلغ بعد سن العاشرة أن أعمل لأوفر لنفسي مصاريفي.

 

 فكنت اعمل صبيا في أية مهنة وفي أي محل وارتدي ملابس أقاربي القديمة وأظل أعمل حتى أبكي من التعب وقسوة الحياة ، وأذاكر دروسي في المدرسة وانجح، لكن مع تقدمي في الدراسة ازدادت المصاريف ولم يعد أجر الصبي الزهيد يكفي لشراء الكتب والملابس و إمكانيات جدتي البسيطة لا تسعفني فعملت في شركة خاصة تقوم بأعمال النظافة في المصالح الحكومية بعد أوقات العمل الرسمية وأصبحت أذهب إلى المصلحة التي نتولى نظافتها بعد انتهاء الدراسة وامسح البلاط وأنظف الحمامات فإذا طلبت مني إحدى الموظفات أن أقوم بنظافة بيتها قمت بذلك عن طيب خاطر مقابل أجر بسيط ، وكل ذلك وأبي وأمي موجودان على قيد الحياة ولا يعرفان عني شيئا ولا كيف أدبر نفقات حياتي .

 

 وطوال هذه السنين كانت جدتي تمنعني من زيارة أمي في بيتها حتى لا يتضايق زوجها ، مع أني كنت احترق شوقا إلى رؤيتها والحديث معها .. إلى أن جاء يوم دعيت فيه لزيارة أمي في بيتها لأول مرة ففرحت وأسرعت بالذهاب إليها .

 



 
 ولكاتب هذه الرسالة أقول :

لقد حزنت لرحيل أمك يا صديقي رغم أنك حرمت من حنانها ورعايتها معظم سنوات حياتك .. لأن فطرتك سليمة لم تفسدها معاناتك ولا قسوة الحياة عليك وأنت تلاطم أمواجها وحيدا محروما ولأنك أدركت قيمة رمز الأم بغريزتك وعاطفتك الدينية الصادقة، رغم افتقادك له في حياتك فحزنت كما ينبغي أن يحزن الإنسان السوي المشاعر لرحيل الأعزاء حتى ولو تباعدوا عنه لأننا نحزن بقلوبنا نحن وليس بقلوب من باعدونا وحرمونا من التواصل معهم، فلا عجب إذن في حزنك النبيل على أمك بل لعل العجب هو ألا تحزن وألا تحس بأنك قد فقدت إنسانا عزيزا كنت تتطلع دائماً للتواصل معه .

 

 ولقد سبقك إلى هذا الإحساس الإنساني النبيل كثيرون منهم الروائي الفرنسي العظيم انوريه دى بلزاك الذي حرم مثلك من حنان أمه في طفولته وصباه وشبابه لانشغالها عنه وكتب في إحدى رسائله مخاطبا فتاته : تعلمين أنه لم يكن لي قط أم ، ومع ذلك فحين مرض في أخريات حياته وزارته أمه في فراش موته امسك بيدها وقال لها : . لقد قسوت علي كثيراً يا أماه لكني أحبك وأعجب بك وسأحاول أن أوفر لك شيخوخة هادئة.


فعسى أن تكون لك قوة إرادة هذا الكاتب العظيم وعسى أن يعوضك الله عما لقيته من آلام ومعاناة بأن يحقق لك أهدافك في الحياة الكريمة والمستقبل الآمن الباسم بإذن الله ، وليس كل ذلك بكثير على شاب أصيل مثلك، بل هو العدل الإلهي الذي لابد أن يتحقق يوما ما فانفض عنك يا صديقي ظلال الاكتئاب وركز جهدك في دراستك لتختصر رحلة المعاناة وتقرب فجر

تحقيق الأهداف، وتفضل بزيارتي مساء الاثنين القادم لعلي استطيع أن أخفف عنك بعض إحساسك بالوحدة وافتقاد النصير في هذه الحياة الهادرة .. وإني لفي انتظارك .

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات