سيدة من المدينة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
اكتب إليك بعد
ما يقرب من خمس سنوات من رسالتي الأولى إليك ولقائي بك بعدها .. فأنا يا سيدي
كاتبة رسالة "فتاة من قاع المدينة" التي احتضنت رسالتها وهمومها أنت
وقراؤك ، وأنا التي كتبت أشكو إليك هموم حياتنا التي لا يحس كثيرون بها ونحن أسرة
من أبوين وخمسة أشقاء نعيش في بدروم عمارة مقابل خدمة سكانها جميعا بعد أن تهدمت
الحجرة المظلمة التي كنا نسكن فيها .. وأمضيت بها ما يسمى بطفولتي وهى الطفولة
المحرومة التي لم تعرف خلالها يوما سوى قماش الدمور رداء خارجيا وداخليا في نفس
الوقت ، ولم أحصل في سنواتها أبدا على قرش أو نصف قرش كمصروف لتلميذة في المدرسة
ثم تعقدت حياتنا أكثر بعد ذلك حين انهارت الغرفة المظلمة وانتقلنا منها للبدروم
الرطب الذي عشنا فيه مع مياه المجاري جنبا إلى جنب تبلل فراشنا حتى زارتنا كل أمراض
الدنيا وتلطمنا بين العيادات الخارجية للمستشفيات المجانية نتداوى من آثار الحديد
والزرنيخ، ونقاوم الأمراض فنجونا من بعضها واستقر فينا البعض الآخر.
وبقي عندي منها مرضان جليلان أحدهما المرارة،
ورغم قسوة حياتنا فلم نكن نعدم من يؤذي مشاعرنا كما قلت لك في رسالتي السابقة أو
من يسخر منا فاسمع وأنا ماشية في الطريق مثلا من يقولون لي حمقا وجهالة : أهلا يا بوابة .. حتى حاول أخي وأختي رغم صغر سنهما
الانتحار مما سمعاه من زملائهما في المدرسة عن فقرهما .. ورغم كل الصعوبات فقد مضت
الحياة بنا وأصر أبي العامل المكافح بأحد المصانع على أن يعلمنا جميعا فحصلت أنا
على دبلوم التجارة وجلست في البدروم بلا عمل .. وواصل إخوتي جميعا التعليم وسط هذه
الظروف البشعة .. وقد كتبت إليك رسالتي تعليقا على رسالة نشرت وقتها لأقول لكاتبتها
أن ما تشكو منه لا يقاس بما نعانيه من آلام وصعوبات في حياتنا فنشرت رسالتي وعلقت
عليها تعليقا مؤثرا رفع من معنوياتي وزاد من إصراري على تحدي هذه الظروف الصعبة
ومازلت أذكر منه عبارة تقول لي فيها إن أكثر لحظات الليل سوادا هي اللحظات التي
تسبق مباشرة ظهور أول ضوء من ضياء الفجر وأنه لابد من أن نتمسك بالأمل دائما في
حياة أفضل وإلا أصابنا الجنون .
ورغم تقديري لرغبتك
المخلصة في التخفيف عني إلا أنى اعترف لك الآن إني لم أصدق وقتها أن "ليلنا"
يمكن أن يكون له فجر قريب أو بعيد .. لكن شاءت إرادة الله أن تكون أنت أبعد نظرا
مني .. فما أن نشرت رسالتي حتى احتضن قراؤك همومي ودعوتني لمقابلتك فجئت إليك أقدم
رجلا وأؤخر أخرى .. واستقبلتني بكل احترام الدنيا .. وقدمت لي خطابا أتوجه إلى
مقابلة مدير شئون العاملين في إحدى شركات القطاع العام الكبرى وقلت لي أن رئيس
الشركة أكرمه الله قد أمر بتعييني فيها بعد أن قرأ رسالتي ثم بذلت جهدا كبيرا معي
لتقنعني بقبول ما أسميته "بهدايا" قراء البريد لي .. وغادرتك راضية
وشاكرة وتوجهت إلى الشركة وقابلت مدير شئون العاملين فيها وأمر بتعييني بعقد مؤقت
بالشركة.
والآن وبعد 5 سنوات من هذا اللقاء اكتب إليك الآن لأقول لك أنه بفضل الله وفضل قرائك قد ظهر ضوء الفجر الذي تنبأت لى به في حياتي بانتظاره .. فتم تثبيتي في هذه الشركة وأصبحت موظفة دائمة فيها وحصل أبي على شقة من المساكن الشعبية بعد طول انتظار لها منذ انهار المنزل الذي كنا نسكن إحدى غرفه وشفيت بأمر الله من المرض اللعين الذي كنت أعاني منه.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
إن رسالتك هذه
شمعة جديدة جاءت لتبدد بعض ظلام اليأس الذي يستولي
أحيانا
على النفوس وينبغي علينا دائما أن نقاومه حتى الرمق الأخير لأنه كما قلت لك في ردي
على رسالتك السابقة لا مفر أمامنا دائما من الأمل في الغد الأفضل .. وإلا أصابنا
الجنون ولكم سعدت وأنا اقرأ رسالتك هذه وأتذكر قصتك القديمة واستعيد فصولها الأولى
إلى أن لاح ضوء الفجر أخيرا في حياتك إذن فلقد أنجبت يا سيدتي وتم تثبيتك في
وظيفتك .. وحصلت أسرتك على الشقة الحلم بعد طول معاناة .. يا الهي لكم ترق الحياة أحيانا
فتجود بالنسائم المعطرة لتذكرنا بأن لكل ليل أخر ولكل معاناة نهاية .. وبأن من لا
يؤمن بذلك "يئوس كفار" .
إن رسالتك هذه
سوف تسعد أصدقائك القدامى من قراء البريد كما أسعدتني .. وتضيف قطرات جديدة إلى
نهر الخير الذي قلت بحق أنه لا يضيع في الدنيا هباء منثورا.
فهنيئا لك كل ذلك وما أحراك وأحرانا بأن نستعيد
معا دعاء بعض المتصوفة فنقول الآن وفي كل حين: اللهم إنك أعلم بعجزي عن مواضع شكرك
..فاشكر نفسك عني.
ومرحى بمغادرتك لقاع المدينة يا سيدة المدينة.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر