الفراش الجاف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 

الفراش الجاف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

                      الفراش الجاف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988


أبلغ من العمر واحد وعشرين عاما طالبة بإحدى الكليات المرموقة وأعيش مع أبي وأمي وأختي التي تصغرني بعدة أعوام .. حين كنت في الخامسة من عمري شهدت موقف بين أبي وأمي بدا لي وقتها شديد الغرابة فقد حدث أن عاقبت أمي أبي في شيء لا اذكره الآن فانفجر فيها وجذبها من شعرها وانهال عليها صفعا وركلا فبدأت أمي تدافع عن نفسها وكان أقوى منها فسال الدم من فمها ورأيت أنا الدم فذعرت واعتقدت أنها سوف تموت فصرخت بكل قوتي ولم اشعر إلا وطوفان من الماء يغرق ملابسي الداخلية وينسال بين قدمي إلى الأرض .. وأمي المسكينة تطلب مني وهي تتلقى الضرب ألا أخاف وافزع ، وأبي مستمر في المعركة .. فاستمر صراخي الهيستيري حتى تركها أبي وأخذتني إلى غرفتها وراحت تجفف دموعی بید ودمها باليد الأخرى وتطيب خاطري وتضمني إليها وتطلب مني وهي تبكي ألا ابكي حتى هدأت أخيرا بعد فترة طويلة .

 

ومنذ ذلك الحين يا سيدي وأنا أرى أمي تضرب بين حين وآخر أمامي وأمام شقيقتي الصغرى .. فما أن يغضب أبي لأتفه الأشياء حتى ينفجر ويهدد ويتوعد ثم تمتد يده إلى أمي التي تتحمل صابرة من اجلنا أملا في أن يتغير ، لكنه لم يتغير ومازال على حاله حتى الآن. حتى بعد أن كبرنا ودخلنا المدرسة الابتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية ووصلت أنا إلى الجامعة .. ومازال الحال على ما هو عليه رغم أن أبي جامعي ومتعلم وأمي أيضا متعلمة وحتى ترسخ داخلي الإحساس بكراهية الدنيا كلها وكراهية الرجال وحتى طالبت أمي أكثر من مرة بأن تترك أبي لنعيش وحدنا بعيدا عنه ولو متنا من الجوع .. لكنها لم تستجب لي وفضلت دائما أن تواصل الاحتمال حرصا على مستقبلي ومستقبل شقيقتي حتى نتخرج نحن الاثنتين ويتقدم لنا ابنا الحلال فيجدانا نعيش في أسرة طبيعية بين أب وأم بدلا من أن يتقدما لنا ونحن نعيش بعيدا عن أبينا فنرخص في عيونهما أو يظلنا بنا الظنون.

 

وهكذا عشنا حياتنا في جحيم مازال مستمرا حتى الآن وإن كان الزمن قد خفف منه .. فما الثمن الذي دفعناه أنا وأختي؟

الثمن هو أنني وأنا في الواحدة والعشرين مازلت منذ اللحظة التي رأيت فيها الدم يسيل من فم أمي وأنا في الخامسة أتبول لا إراديا في فراشي كل ليلة طوال مراحل عمري وفي أحسن الظروف كل ليلتين مرة .. ومازالت أختي التي تصغرني قليلا تتبول أيضا في فراشها وهي على أبواب الجامعة .. وقد فشلت كل العقاقير وكل الأطباء في علاجنا .. فماذا كسبنا إذن باحتمالنا لكل هذا العذاب وكيف ستقدم أمي لمن يختاره لنا النصيب عروسين جميلتين تبللان فراشيهما كل ليلة وماذا افعل الآن في حياتي المحطمة .



 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

رسالتك يا صديقتي أقوى أثرا من أية كلمة يمكن أن تقال في هذا المجال .. فليقرأها أبوك مرات ومرات ليعرف كم جني عليكن جميعا باستجابته الفورية لشيطانه كلما دعاه داعي الانفعال إلى ممارسة الملاكمة والمصارعة وفنون الكاراتيه مع زوجته الضعيفة.

فالحق إن أقسى ما يتعرض له طفل هو أن يرى بعينيه أمه تتعرض للضرب والأذى من أبيه، لأن الأم عند الأطفال هي رمز الأمان .. فإذا رأى الطفل هذا الحصن الذي يلجأ هو إليه ليهدئ روعه يتعرض للأذى فإن إحساسه بالأمان يتزعزع بشدة ويستقر الخوف في أعماقه ويصاحبه إلى أن يشب ويكبر فيترك على نفسيته وسلوكه أسوا الآثار ، وما الكذب وضعف الثقة بالنفس وعدم القدرة على مواجهة الحياة والتردد وسرعة الاستجابة للفشل إلا من آثار هذا الخوف الكامن في أعماق النفوس بسبب جناية بعض الآباء على أبنائهم، وترويعهم بالاعتداء على الأمهات في الصغر أو الكبر وهي جناية لا تلحق آثارها الأم وحدها وإنما تمتد إلى الأبناء وتؤذيهم أشد الأذى .. وفراش الأبناء المبلل إلى سن متأخرة من أخطر آثار هذه الجناية .. ورغم أن هناك أسبابا عضوية للتبول اللا إرادي يمكن علاجها بالعقاقير والأدوية إلا إن أكثر من ٧٠% من حالاته ترجع إلى أسباب نفسية تتعلق أساسا بافتقاد الأبناء للأمان منذ طفولتهم والبداية فيها غالبا هي مشاهدة الأم تتعرض للأذى من الأب الذي يفترض فيه أن يكون الحامي لأسرته وراعيها من الأخطار.


 لهذا فإن علاجك يا فتاتي يبدأ بأن يغرس أبوك في نفسك ونفس شقيقتك الإحساس بالطمأنينة وأن يحيطكن جميعا بالحب الأسري الدافئ .. وأن يقدر لأمك المستكينة صبرها واحتمالها وتضحيتها بسعادتها تمسكا باستمرار الحياة وعدم تمزق الأسرة .. وعندها سوف يؤتى الطب ثماره ويجف الفراش تلقائياً وتعوضكن الحياة عن سنوات الجحيم بسنوات مديدة من الحب والسعادة والأمان إن شاء الله .. فهل يفعل؟

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات