هل تريد شيئاً ؟
منذ أكثر من عشرين
سنة , شاءت الظروف أن أرافق صديقاً لي في المستشفى وهو يجري عملية جراحية , كانت
وقتها شديدة الإيلام نظراً للطريقة التقليدية التي كانت تتم بها . فأتيح لي أن أراقب عن قرب تجربة معاناة الإنسان مع
الألم الذي يعجز عن احتماله , وتألمت لحال صديقي , وأشفقت من أن يأتي يوم اضطر فيه
لمكابدة نفس آلامه , "فوعدت نفسي " ألاَّ أقبل أبداً إجراء نفس هذه
الجراحة ذات يوم , إذا هاجمتني الآلام التي اضطرته لإجرائها ...وعاهدت نفسي أن
أتحمل الألم , وأستعين عليها بصبر أيوب المبتلى , وأن أدعو ربي بدعائه حتى يكشف
عني الضر بغير حاجة إلى جراحة , كما كشفه الله عن عبده أيوب جزاءً وفاقاً لصبره
وحسن عبادته ...وحسن تأدبه في دعائه إليه , فقد كان يدعو ربه حين طالت عليه آلامه
:" أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" .. ولا
يجهر بمطلبه من ربه تأدباً واحتساباً وإيماناً بأنه أعلم بما يريد وتهفو إليه نفسه
, فاستجاب له ربه وكشف عنه الضر وقال له : "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ
بَارِدٌ وَشَرَابٌ" .. فركض الأرض بقدميه فتفجَّر منها ماء مسح به على جسمه فشفي مما
أصابه بأمر ربِّه , وشرب منه فارتوى وطابت نفسه .
وتعلقت بهذا الأمل
طويلاً فشاءت الأقدار بعد عشرين عاماً من هذا " الوعد " أن أجري ما هو
أشد إيلاماً من جراحة صديقي هذا ...وأن أكتشف بعد إفاقتي من تأثير المخدِّر أن
الجرَّاح الصديق الذي أجراها لي قد أكتشف خلال عمله في الجراحة الأساسية حاجتي
لتلك الجراحة إياها , فأجراها عرضاً ولم أشعر بشيء لأني كنت تحت تأثير المخدر ,
ولأنها أيضاً قد أصبحت الآن في سهولة قص الأظافر , ولم تعد آلامها فوق الاحتمال
كما كانت حين أجراها صديقي .
وتذكرت خلال أيام
النقاهة التالية لجراحتي الصغيرة .. ما كان من أمري مع هذا الصديق ومعاناته .. والدرس
الذي خرجت به من ملازمتي له في المستشفى خلال إقامته فيه .. فلقد أجرى له الجرَّاح
عمليته في الصباح الباكر , وأجرى لشاب آخر من الأقاليم نفس الجراحة بعده مباشرة ..
ونقل كل منهما إلى غرفته , فرافق الشاب شقيقه الذي جاء معه إلى القاهرة , ولازمت
أنا صديقي الذي كانت أسرته غائبة عن القاهرة وقتها .. وأفاق المريض القادم من
الأقاليم من تأثير المخدر بعد قليل , فبدأت الآلام الوحشية تهاجمه بلا رحمة .. وبدأ
يصرخ ويتأوه ويئن بلا توقف .. وشقيقه يتألم له ولا يملك شيئاً .. ويأمل أن تخفت
الآلام بعد قليل , أو تصبح في حدود الاحتمال البشري , ولكن بلا جدوى ..فلقد تواصل
صراخ المريض باستمرار , ولم يطق الشقيق صبراً فخرج منزعجاً يبحث عن الجراح ليفحص
شقيقه فوجده قد غادر المستشفى فلجأ إلى الطبيب المقيم فطمأنه إلى أن هذه الآلام
طبيعية بعد الجراحة وستستمر طوال اليوم إلى أن يجيء الليل ويتم حقن المريض بحقنة
مورفين قوية تخمد آلامه وينام حتى الصباح .
ورجع الشقيق إلى
شقيقه يطمئنه بما عرف فوجده أكثر صراخاً وأنيناً ويتوسل إليه أن يفعل شيئاً يريحه
من آلامه , فعاد إلى الطبيب يستغيث به ليأتي معه لفحص شقيقه خشية أن يكون قد حدث
خطأ في الجراحة فيكون هو السبب في هذه الآلام غير المحتملة .. واستجاب الطبيب
لرجائه وفحص المريض وأكد لشقيقه أن كل شيء على ما يرام .. وأنه لا مفر من احتمال
الألم إلى أن يأتي الليل .. لكن المريض لم يهدأ لحظة وانسابت دموعه بغزارة مع عجزه
عن الاحتمال فراود الشقيق الشك من جديد في أن تكون هذه الآلام غير طبيعية , وأن
هناك بالتأكيد خطأ ما وقع في الجراحة لكن الطبيب المقيم يتستر عليه حتى لا يثير
انزعاجه ...أو مجاملة لأستاذه الجراح الكبير .
وتحيَّر ماذا يفعل
لكي يقطع الشك باليقين .. ثم هداه تفكيره إلى أن يذهب إلى غرفة الشاب الآخر الذي
أجرى الجرَّاح له نفس الجراحة ليرى حالته , فإذا كان يئن ويتوجع ويصرخ مثل شقيقه ,
فالطبيب صادق إذن والآلام طبيعية ولا خطأ في جراحة شقيقه ولا ضرورة لأن يستدعي
الجراح الكبير من أي مكان ذهب إليه لإصلاح خطئه أو يخرج ليحضر جرَّاحاً آخر يعالج
خطأ وميله وينقذ شقيقه من الآمة .
واقترب من غرفة
صديقي , وكنت غير متواجد فيها تلك اللحظة , وطرق الباب بحذر فسمع صوت صديقي يأتيه
واهناً , تفضَّل ! فأطل برأسه من وراء الباب فوجده مستلقياً في فراشه في سكون
ووقار .. بلا صراخ ..ولا ولولة .. ولا أنين ..فتأكدت ظنونه .. وهم بأن يرجع عن
الدخول ويتوجه إلى الطبيب المقيم وهو في قمة الانفعال ليفجِّر الأزمة , لكن أدبه
حال بينه وبين أن يفعل ذلك قبل أن يجامل صديقي بالسؤال عن صحته .
فاقترب منه وسأله
:
كيف حالك الآن يا
أستاذ فلان ؟
فأجابه صديقي في
هدوء : الحمد لله ! .
فقال له ، كأنما
يتأكد من مخاوفه : هل أنت بخير ؟
فأجابه صديقي في
وقار : نعم والحمد لله ! .
فعاد يسأله من باب المجاملة والتعاطف ، خاصة
وقد وجده وحيدا في غرفته : هل تريد شيئا قبل أن أنصرف فأجابه صديقي بنفس
الوقار والهدوء : نعم .. أريد أن أموت ! .. فإذا بنوبة هسترية من الضحك
تنتاب الشاب ..لا يستطيع أن يتحكم فيها وإذا به لا يستطيع أن يمنع نفسه من أن يقول
على الفور : يبقى خير ! . ثم ربت على رأسه مشجعا ، وغادر الغرفة وهو في قمة
الابتهاج وقد زالت عنه كل المخاوف والظنون .
وفي الممر التقينا
وروى لي ما حدث وضحكنا معا ، وسألني أين كنت فرويت له أنني كنت في مكتب الطبيب
المقيم للمرة العاشرة منذ الصباح أرجوه أن يأتي معي ليطمئن صديقي إلى أن كل شيء
على ما يرام ، بعد أن ظل يتوجع و يصرخ طوال الوقت بلا توقف ويستغيث بي كل دقيقة
لكي أفعل شيئاً , فأهرول إلى الطبيب ويأتي معي ويطمئنه بنفس الكلام فما إن يخرج
حتى يصرخ صديقي من جديد ويتهمني " بخيانة " صداقة العمر و "
التواطؤ " مع إدارة المستشفى لتركه فريسة لهذه الآلام الوحشية وأنا حائر معه
.. ارثي له ولا أملك له شيئاً .
فإذا كنت قد وجدته
حين زرته ساكنا لا يصرخ فليس معناه أنه لا يتألم ، بل يتألم إلى حد العجز عن
الصراخ والعويل ، أعانه الله على آلامه وما هي إلا لحظات وسيواصل الأنين مرة أخرى
بعد هذه " الاستراحة " القصيرة !
واستراح كل منّا
لهذا التفسير .. ورافقته لزيارة شقيقه وجاملته بالكلمات المألوفة وهدأت من روعه
بأن حال صديقي كحاله .. وظللنا ساعات النهار , ولعله كان أطول يوم في شبابي نتبادل
معاً إخبار المريضيْن إلى أن حلَّ الليل بعد طول انتظار , وجاء الجرَّاح الكبير
وحقن كلاّ منهما بحقنة المورفين فسكنت آلامه لأول مرة منذ الصباح الباكر واستسلم
للنوم الهادئ وانتهى أشقى يوم في حياتهما ! .. وقال لنا الجراح الكبير حين روينا
له ما قاساه المريضان من آلام إنه لا يعطي المورفين لأحد أبداً بعد الجراحة إلا
لمن يجري هذه الجراحة بالذات , ولولا أنه هو نفسه قد أجريت له من قبل , وخبر
آلامها الوحشية , لما قبل أن يعطي هذا المخدر لأحد لأن حقنتين اثنتين منه فقط
تخلقان إدمانه !
وودعنا الجرَّاح
الكبير شاكرين وانصرفنا عند منتصف الليل مطمئنين على سلامة المريضين ..وفي الصباح
الباكر عاد كل منَّا إلى مريضه فوجده لم يستيقظ بعد .. وحين استيقظ كانت آلامه في
حدود الاحتمال البشري الطبيعي .. وبعد أيام تماثل المريضان للشفاء وغادرنا
المستشفى وقد كسبت صداقة مريض الأقاليم وشقيقه , وكسبت درساً غالياً لا يقل أهمية
وهو ألا أحكم على أحد أبداً من مظهره الخارجي بغير أن أقترب منه , وأمتحن جوهره
ومخبره وراء هذا المظهر .. وبعد ذلك يحق لي أن احكم عليه , وأدعي أنني قد عرفته .
ولقد استفدت
كثيراً من هذا الدرس فيما تلا ذلك من مراحل عمري , فلم اسمح لنفسي بأن انخدع
بابتهاج المبتهجين ولا بلهو اللاهيين فأحكم عليهم بأنهم سعداء لمجرد انبهاري
بمظهرهم الخارجي البهيج وقبل أن أعرفهم عن قرب, وأسبر أغوارهم .. فكثيراً ما
تعاملت مع أشخاص يوحي مظهرهم الخارجي بأنهم لا يعانون من أية هموم كبرى في حياتهم
.. فلما اقتربت منهم وأعطيتهم سمعي وشجعتهم على الكلام حتى اكتشفت , بعد قليل أنهم
ممن تنطبق عليهم كلمة المفكر الفرنسي فولتير:
أنهم لا يضحكون
ابتهاجاً , وإنما تفادياً للانتحار!
وكثيراً أيضاً ما
تعاملت مع أشخاص لا يئنون ولا يشتكون من حياتهم أو ظروفهن الخاصة .. ثم سرعان ما
عرفت بعد اقترابي منهم أنهم حقاً لا يئنون ولكن ليس لأن حياتهم خالية مما يستحق
الأنين وإنما لأنهم قد تجاوزوا مرحلة البوح والصراخ إلى مرحلة العجز عن الشكوى
...أو إلى مرحلة " الصمت .. قوة الانفعال " وهي مرحلة متقدمة من مراحل
الألم يفقد الإنسان معها حتى القدرة على الكلام والشكوى والبكاء .
فإذا كنت تعلمت
هذا الدرس , واستعنت به في فهم شخصيات كثيرين يظنهم الغافل سعداء , وهم في الحقيقة
" مآس بشرية " تمشي على أقدامها , فالفضل في ذلك لمن علمني هذا الدرس
بإجابته " العبقرية " على سؤال زائره الشاب في ذلك الصباح البعيد.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر