العين المستديرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

 



العين المستديرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

أنا يا سيدي طالب في إحدى الكليات العملية بالقاهرة .. أعيش حياة سعيدة في ظل أبوي وحياتنا ميسورة والحمد لله وقد اشترى لي أبي سيارة صغيرة اذهب بها إلى الكلية وإلى الدروس الخصوصية والدراسة تمضي على ما يرام فلست من المتفوقين ولا من الفاشلين كما أني شخصية محبوبة من الزملاء والأصدقاء ولا شكوى لي من هذه الناحية ... لكنه قد حدث منذ فترة أن أراني احد زملائي بالكلية سيارته الجديدة فتفحصتها وأبديت له إعجابي بها .. وفي اليوم التالي كان الزميل قادما إلى الكلية فتعطلت السيارة به فوق الكوبري العلوي لشارع ٢٦ يوليو فلاقى الأمرين لتحريكها إلى جانب الكوبري الضيق لكيلا تصطدم بها سيارة قادمة ثم دفعها وحده أكثر لكي ينزلها من الكوبري بلا مساعدة من أحد لأن الكوبري لا يعبره مشاة ، ولا مجال لطلب المساعدة من أحد وواجه الخطر أكثر من مرة عندما وصل إلى منحدر الكوبري وكان عليه أن يتحكم فيها عند هبوطها منه لكيلا تصدم أحدا .. وبعد عناء شديد هبطت السيارة بسلام ووجد من يصلحها له فاتضح أنه عطل بسيط جدا عبارة عن احتراق "فيوز" ، ولأن السيارة اتوماتيك فلم يستطع تغيير السرعة وتعطلت .. والى هنا والأمر عادى .. قد تكون مصادفة غريبة أن يحدث العمل فوق الكوبري .. وهذا الكوبري بالذات الذي لا يعبره أبدا أحد من المشاة ولا مكان لهم فوقه .. لكن غير العادي هو ما حدث بعد ذلك .. فقد حضر هذا الزميل إلى الكلية وروى القصة ضاحكا ثم ختمها بأن ما حدث له كان سببه أني أبديت إعجابي بالسيارة .. أي أنني ببساطة قد حسدتها .. وضحكت مع الضاحكين ولم اعر الأمر اهتماما .. لكني لاحظت بعد ذلك أن هذا الزميل قد تجنبني تماما.

وحدث بعد ذلك أن مزح معي بعض الزملاء فأشار لي إلى سيارة زميل ثالث وقال لي : أعط هذه السيارة عينا .. فضحكت وضحك الزملاء .



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

إن كثيرين يخطئون في حق الآخرين وفي حق أنفسهم بفهمهم الخاطئ لحكاية الحسد هذه فالحسد في معناه الصحيح هو تمني الشخص زوال نعمة الآخرين عنهم .. سواء كان يملك ما يملكون أو لا يملكه وهو إحساس فاسد شرير يعكس سوء طوية الإنسان وكراهته للآخرين ويحاسبه الله عنه سواء زالت النعمة أم لم تزل .. ومن حق الإنسان أن يتمنى لنفسه ما للآخرين وهو إحساس حميد يخلق في الإنسان الحمية والرغبة في التقدم ليكون له ما لغيره من أسباب النجاح وحين يتمنى ذلك فهو لا يحسدهم .. وإنما يغبطهم ومن يغبط غيره قد يحقق ما يتمناه لنفسه إذا صح عزمه لأنه يحرر قلبه من الحقد ويطلق قدراته للعمل والخلق والتقدم ..أما من يتمنى زوال نعمة الآخرين فلا يحقق لنفسه أبدا ما يريد ولا يهنأ بحياته أبدا ، لأنه يجر أثقالا تقيد حركته .. وتؤخر تقدمه.

.

وقد سئل أرسطو يوما : ما بال الحسود أشد هما .. فقال لأنه أخذ نصيبه من هموم الدنيا وأضاف إليها غمه لسرور الآخرين .. ومن يواجه الحياة بقلب مثقل بالهموم لكل ما يحققه الآخرون من نجاح يستنفد أكثر طاقته فيها فلا يبقى له الكثير ليحقق به ما يصبو إليه .

والسؤال الذي لا يسأله البعض لنفسه أبدا .. هل تكفي أمنيات البعض الشريرة لكي يبتلى الإنسان بالفشل أو يفقد بعض ما يملك والجواب هو لا بالطبع لان ما أعطيناه قد أعطاه لنا الواهب الوحيد في هذا الكون جل شانه ولا يملك غيره أن يهب شيئا .. وما فقدناه قد فقدناه بأمره ولحكمة قد تظهر وقد تخفى على الأفهام، وليس لبشر أن يمنع ما أراده الله لإنسان من خير أو يدفع عنه ما سطر له من بلاء، فلا دور إذن لحاسد أو محب فيما يناله الإنسان من حظ في الدنيا.

وزملاؤك طلبة الكلية العلمية العملية لابد أنهم يعرفون تماما أن ما ليس له علاقة سببية واضحة بالشيء لا يرتبط به ولا يتحمل أية مسئولية عنه ، وبهذا المنطق كان عليهم أن يعرفوا أن الأمر كله مجرد مصادفات قد تحدث لأي إنسان فلا يحاسب ولا يسأل عنها إذ ما هي العلاقة السببية الواضحة بين نظرة استحسان السيارة وبين احتراق فيوز بها فوق کوبري لا يعبره المشاة في اليوم التالي ، أو بين كلمة إعجاب بسيارة أخرى وبين فراغ إطاراتها من الهواء بفعل فاعل غالبا لكيلا تتوقف السيارة أمام مسكنه ، لا علاقة سببية بالطبع .. فكيف يربط زملاؤك بين ما يسمونه بعينك المستديرة وبين ما حدث !

 

إن مبالغة البعض في الخوف من الحسد تقلب معاني الأشياء وتصعب الحياة عليهم إذ كيف نجزي إنسانا على إبداء إعجابه بشيء يخصنا .. بأن نتشاءم ونخشى على ما نملك منه .. وهل من المفروض أنه حين یری إنسان ما نملك أن ننتظر منه أن يبدي تحقيره وازدراءه له لكي نأمن عليه من الضرر ؟ وحتى لو فعل ذلك هل من الطبيعي أن نكون سعداء بذلك أم أنه من المفروض وفقا للطبيعة البشرية أن نضيق به .. ونتهمه في أعماقنا بالجلافة.

 

إن خطورة هذا التفكير الخاطيء هي أنه يبعدنا عن معرفة الأسباب الحقيقية لما نواجهه من متاعب في الحياة وبالتالي عن علاجها إذ ما أسهل أن نفسر كل إخفاق نواجهه في الحياة بهذا التفسير الساذج ونكف عن المعاناة لتغير من أنفسنا .. ونحاول علاج أخطائنا.

فقل كل ذلك لأصدقائك ولزملائك فلعلهم يخجلون من أنفسهم ويعرفون أنهم يظلمونك ظلما فاحشا بهذه الظنون .

 إن ما يفعلونه يخالف الدين ويخالف المنطق والعلم ، فيخالف الدين في تعارضه مع قاعدة "ولا تزر وازرة وزر أخرى" ويخالف المنطق والعلم في رد الأشياء إلى غير مسبباتها الحقيقية.

 فليكفوا عن هذا الهذر وعن التطير منك ومن غيرك فلقد نهى الرسول الكريم عن ذلك وقال لا طيرة وخيرها الفال .. وقال ما معناه أن الشؤم الحقيقي هو سوء الخلق فليعدلوا معك .. وإلا تحملوا وزر ظلمهم لك وإشاعتهم هذا الوهم عنك .. أما أنت فلا تلتفت لهذه الصغائر وعامل الآخرين بالحسنى وركز جهدك في إحراز النجاح والتفوق تجد من باعدوك هم أول من يطلبون صداقتك .. لأن التفوق قوة .. والبعض في هذا الزمان لا يحبون ولا يحترمون إلا الأقوياء.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات