السؤال .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
أكتب إليك لأنى أشعر أننى أقف
أمام مفترق طريق واحتاج فيه إلى من يرشدني إلى الطريق الصحيح .. لقد عشت طفولتي
بين والدي حتى سن السادسة ثم تم الانفصال بين أبي وأمي وكنا أربعة من الأخوة لم
يستطيع أبي أن يتحمل مسئوليتنا وحده فتزوج بعد انفصاله عن أمي بعام واحد .. وبعد
زواجه بعامين سافرنا إلى إحدى الدول المجاورة حيث عمل أبي لمدة عشر سنوات .. حيث
عانيت الغربة الحقيقية بعيدا عن حنان الأم والأهل والأصدقاء , وبالطبع فلقد عانينا
الكثير فى البداية من متاعب زوجة الأب وغيرتها على أبى من اهتمامه بنا .. فكان
دفاعنا الطبيعي عن أنفسنا أن تباعدت الصلة بيننا وبين أبينا فلم نعد نراه إلا
لحظات فى الصباح وفي المساء .. وقد علمتنا التجارب أن نكون واقعيين وأن نفلسف
الأمور بما يتماشى مع الظروف, والدنيا يا سيدي تعلم الصغار الحكمة حين يجدون
أنفسهم فى حاجة إليها لكي تسير بهم الحياة بلا مصاعب وكانت فلسفتنا هكذا .. لقد
تزوج الأب, وتزوجت الأم فلم يعد للأبناء أى نحن إلا النظر للمستقبل وأن يهتموا
بحياتهم .. مادام الأب يعيش حياته مع زوجة أب والأم تعيش حياتها مع زوج جديد بعيدا
عنا ! وهكذا كانت بداية تشكل شخصياتنا .. وبالنسبة لي وأنا فتاة .. فلقد وصلت إلى
درجة من الاحساس تجاه أمي ربما تصل إلى درجة الكره لها لأنها تخلت عنا .. ولم
تدافع عن حياتها مع أبي لتحتفظ بنا مهما كانت الأسباب .. ووصلت أيضا إلى درجة من
المشاعر المشابهة لذلك تجاه أبي لأنه لم يكرس حياته لنا .. ولم يحارب لنجاح حياته
الزوجية مع أمي لكي ننشأ بينهما ونعيش حياة طبيعية نتمتع بحنان الأم وعطف الأب.
ولم أكن أصارح أحدا بمشاعري هذه
مكتفية بعلاقتي بربي ورحمته الواسعة .. وإنما أذكر لك ذلك لتعرف كل أم ترغب فى
التخلي عن أبنائها أنه بالرغم من الحب الطبيعي الذى غرسه الله في قلوب أبنائها لها
إلا أن أبناءها حين يجدون أنفسهم بعيدين عنها ومشتتين بينها وبين زوجة أب تكون
نظرتهم لها مليئة بالكره والغضب لعدم وجودها إلى جابنهم عندما يحتاجون إليها .. لكن
هذه قصة أخرى كما تقول فى ردودك على بعض الرسائل وأعود إلى مشكلتي فأقول لك إنني
عدت إلى مصر بعد أن حصلت على الثانوية العامة لالتحق بإحدى الكليات ونتيجة لظروفي
الخاصة فلقد أقمت فى إحدى دور المغتربات فى القاهرة لأعيش غربة من نوع جديد ..
فوالدتي تعيش في مدينة بعيدة ولا أراها إلا لمدة شهر كل سنة .. واذهب إليها كزائرة
وفى الكلية حددت هدفي في هذه المرحلة في أن أحقق ذاتي بالنجاح والعمل أولا ثم فى
أن أجد لنفسي شريك الحياة الذى يخفف عني إحساسي بالغربة وافتقاد الأهل .. وفى
الكلية التقيت بزميل لي اجتذبني إليه الحزن الكامن فى عينيه والغضب الدائم على
الدنيا الذى يبدو مسيطرا عليه .. وارتبطنا معا وتفاهمنا بلا كلام على أن نتشارك فى
الحياة .. وقد تغير كثيرا منذ عرفته وخف سخطه على الحياة, وهو بصفة عامة شاب صادق
مخلص, قادر على تحمل المسئولية, فهو يعمل بجانب دراسته مع أبيه ويحاول أن يكون له
عمل خاص به.
هذه هي شخصيته .. لكن الصورة لكي تكتمل تحتاج إلى تفاصيل أخرى ضرورية سأقولها لك .. فشريكي هذا مصاب بشلل الأطفال ويستخدم الجهاز المعروف فى السير, ولم أشعر أن هذه مشكلة لأنه لم يختر لنفسه شكله أو هيئته , وهو يكن لي حبا عظيما لكنه لا يمنعه من أن يكون غيورا بحكم حالته.. وهو أيضا واثق من نفسه بشكل زائد عن اللزوم ولا يكاد يصدق أن أهلي يمكن أن يرفضوه .. فإذا ناقشنا هذا الاحتمال تساءل عن السبب فاتجاهل السبب الأساسي وأقول له لأنه مازال طالبا فهو لا يتصور هذا السبب عائقا يمنع قبوله لأنه شئ قدره الله ويحس أنه لا يمثل مشكلة لأى فتاة كمن يكذب كذبة ثم يصدقها, أما ظروفه فهو من أسرة غنية من جهة المال ولدية شقة وسيارة, لكنه متوسط من الناحية الاجتماعية والأدبية لأن أباه ليس متعلما ويعمل بأعمال حرفية.
ولكـاتـبة هـذه الـرسالة أقـول:
إنك لا تقفين أمام اختيار صعب
كما تتصورين .. فأنت لست مقتنعة فى أعماقك بهذا الشاب المخلص الذى يمكن أن تقتنع
به أية فتاة أخرى وترى فيه شريك حياتها وأنت أيضا شديدة الاحساس بوضعه الجسماني
البسيط الذي يمكن أن يتعرض له أي إنسان فى أية لحظة من العمر كأن يصاب مثلا بعد
الزواج فى حادث تصادم يضطره لاستخدام ما يساعده على المشي وأنت أيضا فيما اتصور لا
تحملين له عاطفة صادقة قوية تدفعك للارتباط به والتمسك له والتغاضي عن أي عيوب
شكلية فيه ولو كنت تحملين له هذه المشاعر الصادقة لما رأيت فيه سوى المزايا لأن
عين المحب عن كل عيب كليلة يا صديقتي .. أما عين المتردد بين الحب وما تسمينه
بالعطف فهي عين حائرة ترى العيوب أحيانا أكثر من المزايا .. وترى المزايا أحيانا
أكثر من العيوب.
والنتيجة فى كلا الحالين هى عدم
الاقتناع الكامل بشخص المحبوب.
واخطر آفات الزواج في رأيي هي
أن يتزوج المرء ممن لا يقتنع به اقتناعا كاملا قبل الزواج ويفخر به أمام نفسه قبل
الآخرين, فالعاطفة نفسها يمكن أن تتولد بالفعل بعد الزواج من خلال المعاشرة الطيبة
والتعاطف بين الزوجين والاهتمامات المشتركة أما الاقتناع فإنه من الصعب أن يخلق من
العدم بعد الزواج ما لم يكن الإنسان مهيأ له من البداية .. لذلك نرى فى حياتنا
أحيانا زوجا يعاشر زوجته ثلاثين عاما ولم يقتنع بعد بأنها من كانت تستحقه .. وزوجة
تعاشر زوجها عشرين عاما ولم تتوصل بعد إلى الاقتناع الداخلي بكفاءة زوجها لها
وأحقيته بها وهذه كارثة من كوارث الحياة الزوجية فى مجتمعاتنا تثمر غالبا علاقات
زوجية غير سليمة وتنذر دائما بالعواصف والزلازل حتى فى أخريات العمر.
لذلك أطالبك يا صديقتي بألا ترتبطي
بهذا الشاب الأمين إلا إذا كنت مقتنعة به وفخورة به وتشعرين فى أعماقك بأنك سوف
تخسرين الدنيا كلها إذا فقدته .. وإذا جاز لي أن أحكم على مشاعرك من سطور رسالتك
فإني أرى أنك لست كذلك .. وأنه من الخير لك وله أن تتوقفا عند هذا الحد من التجربة
.. وأن تدعيه لحياته ولمستقبله ولمن تقتنع به اقتناعا كاملا وتفخر بالارتباط به
أمام الجميع وليس فى ذلك ما يعيبه على الإطلاق .. ولا هو دليل على أنه ليس كفئا
للزواج منك أو من غيرك وإنما هو دليل فقط على أنه لم يصادف معك نصفه الآخر المقدور
له أن يمضي معه رحلة الحياة .. وأن عليه أن يتلفت حوله فلعل نصفه الآخر يحيا إلى
جواره لكنه لم يكتشفه بعد ورغم أني لا ألومك كثيرا على ترددك .. فإني ألومك
بالتأكيد على أنك قد شجعته على الارتباط بك وأنت لست مقتنعة به تماما فى أعماقك ..
ويدفعني ذلك لأن أسألك فى النهاية .. ترى ماذا يمكن أن يكون موقفك لو كنت أنت من
تستعمل هذا الجهاز اللعين وكان هو من أرادت له الأقدار أن يكون الصحيح المعافى
الذى يكتب إلي طالبا المشورة فى مفترق الطريق بين الارتباط بك أو التخلي عنك .. هل
كنت تلتمسين له العذر وتقدرين له دوافعه أم أنك كنت ستعتبرين تردده جارحا لمشاعرك
ودليلا على ضعف عاطفته تجاهك؟
اعتقد أنك تعرفين الجواب ..وتعرفين
أيضا أن الإنسان لا يختار لنفسه ما يعيبه عند الآخرين وأنه لا فضل لأحد فى شكله أو
مظهره أو ظروفه الخاصة وأن الوقوف طويلا أمام الشكل يعني أن هناك خللا فى تقييم
الجوهر, لكن المشكلة أننا نطبق دائما المعايير القاسية على الآخرين بلا أي تقدير
لمشاعرهم ثم نشكو دائما من ظلم الآخرين لنا لو طبقوا هم نفس هذه المعايير القاسية
علينا ولعل هذا ما كان يعنيه الشاعر حين قال:
لو نظر الناس إلى عيبهم
ما عاب إنسان على الناس
ويبدو أننا نحتاج دائما إلى ألا
ننسى عيوبنا لكي لا نحصي على الناس "عيوبهم".. ونركز عليها أنظارنا .. ولو
فعلنا ذلك .. لأصبحت الدنيا بحق أكثر احتمالا وأقل عناء.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر