صندوق الأسرار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
زوجي يا سيدي نوع غريب من البشر
لا أعتقد أنك قد تلقيت أى رسالة من قبل عنه .. فلقد تزوجنا منذ 12 سنة وبعد خطوبة
استمرت لمدة سنة ونصف .. وأنجبنا خلال حياتنا الزوجية طفلين .. وأنا أقاسمه غرفة
نوم واحدة كما هو الحال فى معظم الزيجات ، ومع ذلك فأنا لا أستطيع أن "أدعي"
أنني أعرفه جيدا أو أعرف عنه شيئا فأنا لا أعرف أين يعمل على وجه التحديد ولا من
هم أصدقاؤه ولا ماذا يحب وماذا يكره وماذا يحلم لحياته فهو لا يشركني في أي أمر من
أموره ولا يعتبرني شريكة له فى شئ فى حين أني أعتبره شريكي وحاضري ومستقبلي .. إن حياتي
كتاب مفتوح أمامه يقرأ كل سطوره .. وحياته لغزا لا أعرف مفاتيحه فأنا موظفة وهو
موظف لكنه يعرف كل شئ عن مكان عملي واسم رئيسي وأسماء زملائي وزميلاتي ويعرف مرتبي
بالمليم أما هو فلا أعرف سوى اسم الوزارة التى يعمل بها أما الإدارة التى يتبعها فقد
ينقل من إداره إلى إدارة فلا أعرف بهذا النقل إلا بعد سنوات وبالصدفة من أقاربه
أما مرتبه فلا أعرف عنه شيئا ولا أعرف كم يتقاضى وهل حصل على العلاوة أم لا وهل
يتقاضى الحوافز أم لا فكل شئ فى حياته يعتبره سرا ينبغى إخفاؤه.
إذا خرج لم يقل لي أين هو ذاهب
وإذا عاد بعد لحظات لا يستطيع "محقق" أن يعرف أين كان .. إنه يملك قطعة
أرض زراعية صغيرة ورثها عن أبيه ويزرعها له أحد أقاربه فى بلدته هذه الأرض لا أعرف
حتى الآن كم مساحتها ولا كم تدرعليه من الدخل كل سنة ولا ماذا يزرعها وطوال 12 سنه
مضت على زواجي منه لم أره مرة داخلا علي بشئ مما ينتجه.
وحين يأتي أحد أقاربه ليزوره
فأجلس معهم مرحبه فألاحظ أن الحديث لا يخرج عن المجاملات العادية كأن هناك حظرا
على الأحاديث الهامة أمامي فإذا تحدث أحدهم عن أي أمر يتعلق بالأرض أو اخبار
الأسرة كزواج فلانة أو فلان من اشقائه تململ زوجي ونفخ لكي يسكت المتحدث ثم لا
يلبث أن يدعوه إلى الصالون وحده ويغلق عليهما الباب ليتحدثا فى الأسرار التي لا ينبغي
أن يعرفها "الغرباء" من أمثالي.
شكوت له مرارا من ذلك فلم أسمع منه سوى همهمات غير مفهومة لا أميز منها سوى عبارة واحدة أن ذلك كله قد يحدث بحسن نيه وأنه لا يقصد وهكذا أما باقي الأسرار فلا يعرف كيف يبرر حجبها عني.
لقد اعتاد ذلك طوال حياته يا سيدي فلم أعرف منه أى شئ عن طفولته وصباه وأصدقائه وأقاربه .. ولولا أن شقيقته التى خطبتني له قد قالت لي أنه خريج كلية الزراعة لما عرفت هذا "السر" حتى الآن لأنه لم يشر إليه بعد ذلك أبدا.
ولـكـاتـب هـذه الـرسالـة أقول:
أقول بادليه يا سيدتي غموضا بغموض
وكتمانا بكتمان وإدعاء للخطورة بإدعاء .. فبعض الناس لا تجدي معهم محاولات الاقناع
والاسترضاء خاصة فى مثل هذه البديهيات .. ولا ينجح معهم إلا مبدأ المعاملة بالمثل
الذى تطبقه الدول فى علاقاتها, فلعل ذلك ينجح فى اشعاره بأنه من أكثر ما يغيظ
الإنسان أن يعامله شريكه فى الحياة بكل هذا الغموض وكل هذا التحجر فى المشاعر وكل
هذه الأنانية, فإذا نجحت في إشعاره بذلك "ساوميه" على تبادل الأسرار كما
يفعل جواسيس الدول المتصارعة ولكل "سر" ثمن ومقابل .. فإسم الإدارة التي
تنقلين إليها مثلا "ثمنه" هو اطلاعك على اسم الإدارة التى يعمل بها
حاليا واسم رئيسك الجديد مقابل إسم رئيسة الحالي وقيمة العلاوة والحوافز التى
تحصلين عليها آخر هذا العام مثلا مقابل سر الأسرار وقدس الأقداس وهو معرفة كم يبلغ
مرتبه الآن .. هكذا إلى النهاية .
إن زوجك يا سيدتي نمط من
الشخصيات موجودة بالفعل فى الحياة يقف من الحياة موقف "المتوحد" الذى قد
يتزوج لكنه لا يشارك أحدا فى نفسه .. ويتعامل مع الآخرين لكنه لا يقترب منهم ولا
يندمج معهم ولا يسمح لأحد باقتحامه .. وفى تقديري أن نشأته الأولى قد غرست فيه
بذور الشك فى الآخرين والنفور منهم، وأنه لم ينشأ فى بيئة أسرية طبيعية غرست فى
نفسه أنه جزء من كل وعضو مشارك فى الحياة يتفاعل معها وتتفاعل معه ويأخذ منها
ويعطيها بدليل هذه الشخصية العجيبة التى تكاد تقنعني بأنه قد تربى فى معسكر لإعداد
"الارهابيين" أعده للمهام الخطيرة لا للمشاركة فى الحياة الاجتماعية
العادية لأمثالنا من البسطاء الذين تخلو حياتهم من أي مبررات للخطورة والغموض
والأهمية .. وبعض الأزواج من خريجي هذا المعسكر بكل أسف وبعضهم يخفي وراء افتعال
الغموض والأهمية والكتمان احساسا بعظمة كاذبة لا مبرر لها وبعضهم يخفي به مركب نقص
يحتاج إلى متخصص لتحديده والكشف عنه, ومن سمات هؤلاء الأشخاص الاحساس المغالى فيه
بالذات وبأهمية كل ما ينتمي إليها كأنه سر من أسرار الدولة ومن سماتهم أيضا
الأنانية وعدم القدرة على البذل والعطاء لذلك فهم قد يؤدون مسئولياتهم فى حدود
المعقول كما تقولين لكنهم لا يمكن أبدا أن يتهموا بالكره لأن الكره يبدأ بإستعداد
الإنسان أن يعطي من مشاعره وأحاسيسه للآخرين .. وينتهي بالعطاء المادي , والحياة
بهذه الطريقة ليست زواجا لكنها حرب دبلوماسية بين طرفين متصارعين أحدهما يحرص على
إخفاء أسراره, والآخر يحاول أن يعرفها لأنها من حقه وهي بالتأكيد ليست زواجا
بالمعنى المفهوم لأن الزواج مشاركة وتبادل للثقة والاهتمامات والمشاعر بين الطرفين
.. ومثل هذه الرفقة يا سيدتي لا تبدد للإنسان وحشة ولا تصمد لعواصف الحياة, فقولي
له أنه كل ذلك وطالبيه بأن يفتح لك صندوق أسراره أمام الله والناس فإن لم يستجب
فاعملي بمبدأ المعاملة بالمثل على الفور فلا يفل " الغموض" إلا
"الغموض" ولا "الكتمان" إلا "الكتمان".. والله
المستعان على ما يدعيه من أهمية وخطورة أمثال هؤلاء المتوحدين .. وصحيح شر البلية
ما يضحك.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر