أحزان قديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

أحزان قديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

أحزان قديمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


أكتب إليك هذه الرسالة لأنك ستفهمنى رغم أنك لا تعرفنى والموضوع يا سيدي هو أمي .. فأنا الابنة الصغرى لها رغم أني في الخامسة والأربعين من عمري .. أما هي فقد تجاوزت السبعين أطال الله عمرها.

والمشكلة أنها تضعني في قلبها في المكان الأول قبل شقيقتي وشقيقي .. لذلك فهي تعتبرني صندوق أسرارها التى تبخل بها على شقيقتي وشقيقي وتخصني وحدي بها .. وهنا تبدأ المشكلة أن أمي كحال كبار السن كل حديثها الآن شكوى من كل الناس بلا استثناء وأولهم أختي وزوجها وأولادها وأخي وزوجته وأولاده ثم من السيدة التى تخدمها ثم من الجيران والبائعين والصغار الذين يلعبون الكرة فى الشارع وتتذكر آلاما وأحزانا عانتها وهي في سن الخامسة من العمر وتتذكر قسوة أبويها عليها وظلمهما لها وتشكو مما تعرضت له من أبي وتشكو من أهله فردا فردا مع شرح تفصيلي لفسادهم وسوء طويتهم وكيف تحملت أبي رحمه الله كل هذه السنين رغم أن أبي قد مات وأعمامي جميعا قد انتقلوا إلى دار المقام ولم يعد هناك ما يدعو لاثارة هذه الذكريات المؤلمة لكنها تصر أن تحكي وأن تروي لي قصصهم التي حفظتها "صم" من كثرة تكرارها ولا أعرف هل هي حقيقة أم مبالغ فيها, وأتعذب بسماعها كل يوم فضلا عما تقوله لي كلما زرتها من أن كل الناس يكرهونها وأنهم أيضا كما تقول لي يكرهونني حتى أختي وبالطبع زوجها وأولادها وأعمامي وأولادهم وأولاد خالاتي أيضا, وبصراحة شديدة يا سيدي لم أعد أحتمل , ومهما كان رأيك في فأرجو أن تهديني إلى حل لا يجرح شعور أمي وفى نفس الوقت يريحني مما أعانيه من اكتئاب وتعاسة كلما زرتها وبعد أن أغادرها حيث تصبح الدنيا سوداء أمام عيني ساعات ثم أفيق وأنسى إلى أن أزورها بعد يومين على الأكثر فتعود التعاسة والاكتئاب يخيمان على صدري.

 

ولـكـاتـبة هـذه الـرسالة أقـول:

 

نعم أفهمك يا سيدتي والتمس لك بعض العذر لكني أدعوك للنظر إلى المسألة نظرة أكثر فهما للنفس البشرية وآلامها ذلك أن أكثر الناس توافقا مع الآخرين هم أكثرهم فهما لآلامهم واستعدادا لاحترام معاناتهم مهما بدت صغيرة.

إن أمك يا سيدتي كما فهمت من رسالتك تعيش وحيدة مع سيدة ترعاها ولا يخفف من وحشتها سوى زيارة أبنائها لها من حين إلى آخر, ولقد تغيرت الدنيا من حولها وغاب عنها شخوص عالمها القديم الذين عاصروا آلامها وكانت تستطيع أن تتحدث معهم عنها, ولابد للإنسان من إنسان يناجيه ويبثه همومه وأفكاره, فاختارتك أنت لهذا الدور ثقة فيك وحبا لك, فهل هذا كثير عليها يا سيدتي.

لقد روى لنا الكاتب الكبير أنطون تشيكوف قصة عجوز مرضت زوجته وشريكة حياته ووحدته فى ليلة عاصفة باردة وقاسى الأمرين لنقلها إلى المستشفى بسبب العاصفة الثلجية وعاش مهموما يجتر أحزانه وآلامه وحده وكلما حاول أن يحكي لأحد ما حدث إنصرف عنه أو تشاغل بشأنه عن السماع له أو نهره لأنه مشغول بأموره .. حتى انقضى اليوم ولم يسمع له أحد .. فإذا جاء المساء وجد نفسه بغير أن يحس يحدث حصانه العجوز ويروي له ما حدث ويبثه همومه وإفتقاده لزوجته حتى صورت له عيونه أنه رأى دمعه فى عيني الحصان الصامت الحزين.

فإلى من نشكو بعد الله همومنا ونجوانا إذا أصم الأبناء والأعزاء آذانهم عنا, إن كبار السن فى أوروبا وأمريكا ينجون من الوحدة بعد إنصراف الأبناء وإنشغال الآخرين بهموم الحياة وإيقاعها السريع عنهم فيفرغون حياتهم فى تربية القطط والكلاب ويتحدثون معها كما يتحدث الإنسان مع غيره طلبا للرفقة والإيناس فهل أصبحنا مثلهم.


إنها لا تطلب منك سوى حق الإستماع إليها ومشاركتها وجدانيا بما تعتبره آلاما وهموم ومعاناة ولا بأس بذلك بغير أن تستشعرى الاكتئاب والتعاسة مادمت تفهمين الدوافع وتلتمسين لها الأعذار ولا تتأثرين بهواجسها التى تصور لك أن الجميع يكرهونك.

 فاسمعي لها يا سيدتي ولا تفقدي صبرك معها وأنت تسمعين ما سبق لك أن سمعتيه عشرات المرات فما أهون هذه التضحية البسيطة من أجلها, وما أكبرها قربى إلى الله رغم ضآلة شأنها وحاولي التخفيف عنها وإخراجها من دائرة الأحزان والهموم بقدر ما تستطعين وانظري للأمر كله نظرة أكثر شمولا .. فكم من الزمن سوف تستمر هذه "المشكلة" ورحلة العمر مهما طالت بالجميع قصيرة وكم من الأسى سوف نحس به لو صممنا الآذان الآن عن أعزائنا ثم أنذرنا النذير بغيابهم فعرفنا عندها كم كانت مطالبهم منا التي ضقنا بها تافهة وصغيرة وتمنينا بعد فوات الأوان لو كنا أكثر صبرا وأوسع صدرا.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات