نداء العدل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

نداء العدل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

نداء العدل .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

أنا سيدة في أواخر العشرينات .. جئت إلى الحياة بعد ٦ أشقاء وكنت أخر العنقود كما يقولون لأب مقاول عصامي وکان بيني وبين أختي الكبرى فارق في السن يصل إلى عشرين عاما وبين اصغر إخوتي سبعة ، وهكذا نشأت ولي أمان هما أمي وأختي وستة آباء هم أبي وأشقائي الخمسة ومع ذلك فلقد كنت اشعر أني وحيدة لعدم وجود أشقاء في سني وكنت اعتبر أبناء شقيقتي هم إخوتي الحقيقيين الذين عشت طفولتي معهم .

 

ورغم ثراء أبي فقد نشأت قنوعة .. فقد غرس أبي في القناعة والرضا والتدين وكان مع أمي شديد الاهتمام بی لصغر سني بالمقارنة مع إخوتي ولشكلي الأوروبي المميز لكني والحمد لله عشت صباي كله وأنا ملتزمة بالاستقامة حبا في أبي وأمي وردا لاهتمامهما بی وبعد تخرجي من المدرسة الأجنبية التحقت بالجامعة الأمريكية ودرست فيها الهندسة واستطعت بفضل الله أن أحول كل طالب حب خلال الدراسية إلى طالب صداقة .. فمرت فترة الجامعة بهدوء ، وساعدني على ذلك أني لم أكن أؤمن بقصص الحب العبيطة التي يؤمن بها غيري.

 

 وبعد عام من التخرج قررت أن أعمل واستطاع أبي أن يجد لي العمل المناسب .. ومنذ التحقت بهذا العمل وفي اليوم الأول منه وجدت فيه مهندسا شابا يتطوع لمساعدتي في العمل رغم أنه يعمل في قسم آخر .. ووجدتني أتقبل مساعدته بصدر رحب، وبعد قليل بدأت ألجأ أنا إليه كلما احتجت إلى استشارته في شيء .. ولم يمض قليل حتى وجدتني قد وقعت في حبه ، وانفجر في قلبي بركان الحب القديم وصب فوقه.

وتفاهمنا سريعا وكان أجمل أيام حياتي حين طلب مني عنواني لكي يزور أبي ويطلب يدي منه .. وجاء بالفعل تسبقه أحلامي وآمالي ، فإذا به يفجر بين يدي مفاجأة لم أكن أتوقعها فلقد أخبرني أنه كان

متزوجا من قبل وله ولد صغير وأن زوجته وطفله في الخارج ولا مجال لعودتهما إلى مصر .. فتردد أبي في الموافقة عليه.. لكني في غمرة الحب الذي أحمله له لم أتردد ولم أتراجع وحين حاول أبي أن يراجعني مؤكدا لي أنه لو ظهرت الأم والولد ذات يوم في حياته فلن استطيع مواجهة الموقف .

وتم الزفاف خلال ثلاثة أشهر فقط من الخطبة واستقلت من عملي وتفرغت لحياتي الجديدة وتمتعت بالحب والسعادة مع زوجي الذي اخترته وغمرته بحبي وغمرني بحبه وبعد 9 شهور جاءت طفلتنا الجميلة وأصبحنا ثلاثة .. وتضاعفت سعادتي وصفت الدنيا لي لولا أن اختار الله أبي فجأة فرحل عنا وغابت عني ومساندته لي ، وبعد عام من رحيل أبي تحققت نبوءته التي انذرني بها وظهرت فجأة الأم بعد أن عادت على مصر وقررت الاستقرار بها مع ابنها.

 


 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 لن أطالبك بأن تلبي نداء الضمير لكني سأطالبك فقط بأن تلبي نداء العدل لأن العدل كفيل بحل كل المشاكل إذا ارتضيناه حكما بيننا وبين نوازعنا وهواجسنا.

 إن زوجك يا سيدتي لم يخف عنك من أمره شيئا قبل الزواج ولم يخدعك ولم يعدك بأن يقطع ما بينه وما بين طفله ولو فعل لما استحق احترامك ولا حبك ولا ثقتك فيه فإذا عادت زوجته السابقة فجأة وقررت الإقامة في مصر فهو ليس مسئولا عن قرارها ولا سلطان له أو لك عليها وعلاقة الأب بابنه علاقة دائمة ومتصلة سواء أكان يعيش في مصر أم خارجها وسواء انتهت علاقته بأمه أو استمرت .. لأنها علاقة أبوة وعلاقة الأبوة لا تنفصم .

إن كل ما يطلبه منك زوجك هو أن تقوم هذه العلاقة الإنسانية العادلة بينه وبين طفله الذي لا يد له في القصة كلها .. وأن تستقبليه في بيتك كل حين ليرى أخته وأباه بل وزوجة أبيه التي هي أيضا أم أخته فهل هذا كثير يا سيدتي ؟

ألست تستقبلين أطفال الأسرة الآخرين وتسمحين لهم باللعب مع طفلتك - أليس هذا الطفل أحق بذلك لأن له في بيتك حقا ورحما وقربى ثم لماذا تحرمين طفلتك نفسها من أن تعرف أخاها وتتبادل معه مشاعر الأخوة الصادقة فيكون لها سندا في الحياة حين تكبر وتخرج إلى الحياة تطلب السند والنصير.

 

إن السبب في كثير من أخطائنا هو أننا ننظر للأمور من زاوية مشاعرنا وحقوقنا نحن فقط وننسى مشاعر الآخرين وحقوقهم وهذا هو الفارق بين الأنانية وبين الغيرية وبين الظلم والعدل .. فأنت مشغولة بمشاعرك فقط وتنسين مشاعر زوجك وحقه في أن يستقبل ابنه في بيته وأن يخلق بينه وبين أخته مودة ورحمة وأنت تحبين زوجك لكنك لا تريدين أن تقدمي له هذه التضحية البسيطة .. مع أن الانجليز يقولون في أمثالهم "من أحبني أحب كلبي" ويقول الشاعر العربي القديم "أحبها وتحبني وتحب ناقتها بعيري" .. من شدة حبه لمن يحب فما بالك بابنه ، ألا يستحق مودتك أو على الأقل مشاعرك الحيادية في البداية إلى أن تريه وتعرفيه یا سیدتی؟

 ترفعي عن هذه الصغائر واشكري نعمة الله التي أنعمها عليك فأنت وزوجك متحابان ولكما طفلة جميلة وظروفكما المادية والاجتماعية والصحية جيدة ولا معنى أبدا لأن تهدمي المعبد الذي يعبق برائحة الحب لأن زجاج أحدى نوافذه قد انفتحت من أثر عاصفة صغيرة .

فلا تكوني أنانية فتخسري كل شيء ثم لن تلومي إلا نفسك وآسف لأني لم استطع أن أجد لك حلا يرضيك لأن ما يرضيك لن يرضي الحق والعدل وهما أولى بالإتباع دائما من نوازعنا البشرية السخيفة.

                 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي



Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات