في الصباح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

في الصباح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

في الصباح .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


أكتب لك هذه الرسالة من ركن منزو فى مقهى يضج بالناس والرواد والساعة الآن الحادية عشرة صباحا ورمضان على الأبواب .. وبعد يومين أو ثلاثة سوف يبدأ شهر الصيام وسوف أحرم من جلستي هذه في المقهى لأني أصوم الشهر ولا أستطيع أن أجلس فى مقهى فى الصباح .. وأنا رجل في الرابعة والخمسين من عمري .. أتمتع والحمد لله بصحة وجسم رياضي , وقد تزوجت منذ خمس وعشرين سنة من سيدة فاضلة ربطت بيننا مشاعر الحب والاحترام وانجبنا ولدين يدرسان الآن بكلية التجارة وأوشكا على التخرج وقد بدأت حياتي العملية بعد تخرجي من كلية الشرطة .. وتنقلت بين الأقسام والمدن حتى استقرت حياتي منذ حوالي 18 عاما فى القاهرة وسكنت فى ضاحية مصر الجديدة وواصلت طريق الترقي حتى وصلت إلى نهايته وأنا فى الخامسة والأربعين ثم احلت للمعاش وأنا حامل للرتبة الكبيرة التى يحلم بها كل ضابط شرطة وهى رتبة اللواء.

 

وعقب إحالتي للمعاش منذ 4 سنوات وجدت نفسي شابا فى الخمسين بلا عمل فأصبت بحالة نفسية يعرفها جميع من يواجهون هذه المحنة فى سن مبكرة وأحست زوجتي بالقلق, فطمأنتها إلى أني سوف أعمل لأشغل فراغي بشئ مثمر ولكن بعد فترة راحة واستجمام من عناء ثلاثين عاما من العمل فى الشرطة.

وبدأت مرحلة جديدة من حياتي وواجهت لأول مرة مشكلة الصباح! وهي ماذا أفعل حتى تعود زوجتي من عملها وحتى يعود أبناي من كليتهما وبدأت أمضي فترة الصباح فى البيت .. لكني لاحظت أني أدخن علبة كاملة أو أكثر خلال فترة الصباح وأنا وحيد ضيق الصدر , فإذا ما جاء العصر وعادت زوجتي وولداي  دبت الحياة في من جديد وتوقفت عن التدخين وقد تمر الليلة كلها فلا أدخن سوى سيجارة أو اثنين .

ولاحظت زوجتي إسرافي في التدخين من كثرة أعقاب السجائر التى تجدها فى الطفايات بعد عودتها فلامتني على ذلك .. فغضبت منها لأني تصورت أنها تلومني على ما أصرفه على السجائر .. وقلت لها أني حر في إنفاق مصروفي فيما أحبه .. فحزنت وبكيت وأقسمت لي أنها لم تفكر إلا فى صحتي .. وكانت لدي سيارة قديمة كنا نخرج بها فى أيام العطلات .. فأعدت طلاءها وقررت أن أشغل نفسي فى الصباح بتوصيل زوجتي إلى عملها وبدأت فعلا استقيظ مبكرا ثم اتجه بالسيارة إلى الدقي لأوصل زوجتي .. ثم لا أجد ما أفعله فأتجول قليلا بالسيارة .. أو أجلس في مقهى صغيرة .. ثم أشعر بالملل فأركب السيارة إلى الشارع الخلفي لمقر عمل زوجتي وأتوقف ثم أظل جالسا فى السيارة اسمع الراديو أو اقرأ الصحف .. أو أنام حتى تقترب الساعة من الثانية .. فأتحرك إلى مقر عملها وأقف في انتظارها كأني قد وصلت فورا من مشوار هام!!

 

ورأت زوجتي ووافقتها في ذلك أنني لم أعد أستطيع البقاء بلا عمل حرصا على سلامتي النفسية ..وأيضا لأن الحياة تغيرت سريعا فبعد أن كان المعاش كبيرا وكافيا أصبح بعد 4 سنوات فقط غير كاف لمواجهة أعباء الحياة.

وبدأنا نطرق كل الأبواب .."ونكلم" كل الأقارب والمعارف حتى اثمرت الجهود فجاءني أحد الأقارب ليقول لي أن أحد أصحاب الشركات الصغيرة يحتاج إلي للعمل معه وذهبت لمقابلته فوجدته رجلا فى الأربعين عاد من أوروبا منذ عامين وأسس شركة للأعمال التجارية والخدمات واستقبلني الرجل استقبالا حارا وسألني عن خدمتي وأنواع العمل التى مارستها ثم أعطاني استمارة لملء بياناتها .. فوجدت فيها سؤالا يقول ما هو المرتب الذى تتوقع الحصول عليه من هذه الوظيفة ؟ ففكرت بسرعة وقلت لنفسي أني أحتاج إلى دخل إضافى ييسر لي الحياة .. لكني أحتاج أكثر إلى العمل نفسه لذلك كتبت فى هذه الخانة مائة جنية لكيلا يرفض تشتغلي .. وقرأ صاحب الشركة الاستمارة وتوقف عند خانة المرتب وقال لى أنك رجل قنوع يا فلان بيه .. وأنا أحب هذا النوع من البشر لذلك سأعينك بمائة وخمسين جنيه مبدئيا وسوف تتضاعف بإذن الله مع نشاطك واجتهادك .. وعدت فرحا إلى زوجتي وأخبرتها بما تم ولم أنم ليلتها من السعادة كأنني سأتسلم أول عمل فى حياتي , وفى الصباح خرجت نشيطا وكلي حيوية فأوصلت زوجتي إلى عملها ثم اتجهت إلى عملي الجديد فدخلت الشركة وقادني الساعي إلى مكتبي فوجدته في غرفة تضم ثلاثة مكاتب خالية جلست إلى أحدها وجاءني الساعي بالقهوة والجرائد فشربت القهوة وقرأت الجرائد .. وظللت جالسا في مكاني إلى أن جاء الساعي ينبهني إلى خروج صاحب الشركة وانتهاء مواعيد العمل فخرجت!!

 

وتكرر نفس الشئ فى الأيام التالية .. فقلت لنفسي لعله نسيني فطلبت مقابلته فاستقبلني بنفس الحفاوة .. وقال لي لا تقلق أن الشركة فى مرحلة التأسيس وفى سبيلها على تعاقدات وعندها لن أجد الوقت اللازم لانهاء العمل المطلوب مني .. فشكرته وعدت لمكتبي اقرأ الصحف واشرب القهوة . .وجاء أول الشهر وكنت قد أمضيت 20 يوما على هذا الحال فجاءتني السكرتيرة بمظروف وايصال لتوقيعه فوقعت وتسلمت المظروف فوجدت به مرتبي عن شهر كامل , ثم بعد أسبوع آخر فوجئت بزميل جديد يشغل المكتب الخالي المجاور لي ففرحت به لأنه سوف يسليني وتعارفنا .. ومضت الأسابيع ونحن بلا عمل وكانت رفقة الفراغ والساعات الطويلة قد قربت بيني وبين جاري الجديد في المكتب وهو شاب فى الاربعين استقال من وظيفته الحكومية ليجرب حظة فى البلاد العربية ثم عاد بعد أن خسر الوظيفة ولم يحقق ما يريده لنفسه , فسألته عن العمل المكلف به فقال لي أن المفروض أنه مكلف بأعمال العلاقات العامة لكنه حتى الآن لم يمارس منها شيئا سوى ارسال بعض باقات الورود لبعض الأشخاص فى المناسبات فشكوت له من الملل والفراغ وأنني اشتاق للعمل لأشغل نفسي .. ففوجئت به يجيبني بإجابة نزلت على رأسي كالمطرقة .. فقد قال لي ببساطة .. ادع الله أن يكثر من مشاكل صاحب الشركة .. وأنت تجد ما تفعله ويشغلك !! فلم أفهم من البداية شيئا ثم استوضحته الأمر أكثر فشرح لي ما غمض علي وأصابني بالذهول .. أن عملي الذي أتقاضى عنه أجري هو أن أظل بلا عمل إلى أن يتعرض صاحب الشركة لأية مشكلة ولو كانت مشكلة عائلية كنزاع بينه وبين الجيران, أو مشكلة بسبب العمل فيبدأ عملي .. وهو حل هذه المشكلة مع قسم الشرطة لأني لواء شرطة سابق أستطيع أن أدخل أقسام الشرطة بلا وجل وأن أقابل زملائي السابقين وأن أستعين بمن أعرفهم من الزملاء لحلها وديا!!

 

هذا هو عملي يا سيدي! .. حارس شخصي لكن ليس بالعضلات .. وإنما بالاتصالات والزملاء والأصدقاء..ثم بالبطاقة التى تحمل هذه الرتبة الكبيرة, والتى ينسى كل من حملها أن يضيف إليها كلمة "سابقا" فتظل ببريقها الأخاذ تفتح بعض الأبواب!

خرجت من عملي يومها ضيق الصدر .. ولم أذهب إلى العمل فى اليوم التالي وذهبت إلى النادى فوجدت زميلا سابقا يجلس مع أسرته .. فانتحيت به جانبا وحكيت له ما حدث لي ..

فقال لي ببساطة ألم تكن تعرف ذلك؟ إنها "موضة" بعض أصحاب الشركات الآن أن يعينوا لواء بالمعاش مهمته حل مشاكل الشركة وصاحبها مع أقسام الشرطة!!

وكلما كبرت الشركة كبر عدد "لواءاته" .. وأن البعض يقبلون هذا العمل عن طيب خاطر كما يفعلون مع أصدقائهم .. والبعض الآخر يرفضه من ناحية المبدأ.

وعرفت من زميلي ما أذهلني أكثر .. وهو أن هذه الوظيفة قصيرة العمر لا يزيد عمر شاغلها فى الشركة عن عامين أو ثلاثة بعدها تستغني الشركة عنه لتعين مكانه وافدا جديدا!!

لماذا ؟ لأنه خلال الأعوام القليلة التالية لخروجه إلى المعاش تكون اتصالاته حية وقوية وزملاؤه مازالوا في مناصبهم, ثم تتغير المناصب بعد سنوات ويشغلها وافدون جدد قد لا تربطه بهم زمالة قديمة .. فتضعف قدرته على حل المشاكل وتتراجع أهميته ويفقد وظيفته بعد قليل إلا إذا كان قد أجاد عملا آخر فى الشركة خلال هذه الفترة.

 

سمعت كل هذه الحقائق وأنا ذاهل .. وتذكرت أني أتقاضى مرتبي من الشركة منذ 4 شهور بلا أي عمل .. حتى ولا وساطة لحل أى مشكلة .. لأن صاحب الشركة كان فعلا رجلا طيبا لا يحب المشاكل .. لكنه رأى بعض زملائه يفعلون ذلك فصنع كما يصنعون من باب الاحتياط.

لكن ما ذنبي فى ذلك .. لقد أردت لنفسي عملا ينقذني من باب الفراغ والملل ويساعدني أيضا على مواجهة الحياة .. فإذا بى أجد نفسى مجروح الكرامة أشغل وظيفة مسهلاتي شرطة, التي يتخصص فيها بعض المخبرين والجاويشية الذين يخرجون إلى المعاش كوسيلة لاكتساب الرزق, وبعد هذه السنوات الطويلة من العمل والخدمة بشرف وإخلاص .. ولو كان هناك عمل حقيقي أؤديه ثم عرضت مشكلة لصاحب العمل لما ترددت فى بذل جهدي لحلها مع الشرطة .. لكن ألا يكون لي عمل سوى ذلك .. فهذا شئ آخر!!

انقطعت عن العمل لمدة ثلاثة أيام .. ثم وجدت نفسي اذهب إليه تلقائيا فى اليوم الرابع .. فلم يسألني أحد لماذا انقطعت ولا لماذا جئت, واستقبلوني بترحاب كالعادة .. وقرأت الصحف وشربت القهوة ثم فكرت طويلا .. وقمت لمقابلة صاحب العمل فاستقبلني بحفاوة فشكرت له مشاعره وحسن معاملته لي خلال الشهور الماضية .. وقلت له "كذبا" أني قد وجدت عملا فى شركة قريبة من سكني بمصر الجديدة .. وان نوع العمل فيها يناسبني أكثر ويشغل فراغي وأني أعتذر عن انقطاعي عن العمل من الآن .. فأسف كثيرا لذلك وبصدق وحاول إثنائي عن ذلك كثيرا .. فتمسكت فتمنى لي التوفيق وطالبني بالعودة في أي وقت إذا لم ارتح للعمل فى الشركة الجديدة .. ثم سألني قبل أن أتركه .. هل أعرف "زميلا" لي أرشحه للعمل في الشركة مكاني فوعدته بترشيح زميل لي وانصرفت!!

 

وعدت من جديد للفراغ والملل , لكن ذلك ليس المشكلة .. وإنما المشكلة هي زوجتي التي غضبت مني لتركي هذا العمل بدعوى أنه أفضل من الفراغ .. ولأن دخله كان يساعدنا على الحياة, وأنا أقول لها أنه لم يكن أفضل من الفراغ لأنه كان فراغا فى فراغ , كما كان ماسا بكرامتى كإنسان عاش عمره يكسب عيشه بعرق جبينه ولم يرتش ولم يسرق ولو أراد لفعل ..

وهي تقول أنه كان رزقا من عند الله .. لكنني "تبطرت عليه"!! 


 

ولـكـاتـب هـذه الرسـالة أقـول:

بل أصبت يا سيدي وحفظت على نفسك كرامتك وماء وجهك حين تركت هذه الوظيفة الكريهة التى لا تليق بك ولا بمن كان فى مثل ظروفك.

لقد طلبت العمل أساسا لكي يكون لك دور ولحياتك معنى .. ولكيلا تستسلم للفراغ والخواء ولتساعد نفسك وأسرتك على مواجهة اعباء الحياة بدخل إضافي شريف .. فماذا قدمت لك هذه "اللا وظيفة"؟.

أما الفراغ فلقد ضاعفت منه .. وأما الخواء فقد عمقته .. وأما المعنى والدور فلقد آذتها أذى شديدا لأن توقف الدور او انعدامه فى فترة من الفترات .. ليس سببا كافيا لكي يقبل الإنسان أي دور ولو كان شائنا .. ولأنه حتى حسب "قاعدة" الضرورات تبيح المحظورات .. فإنك لست مضطرا إلى هذا الحد لقبول هذا العمل الذي يسئ إلى كرامتك ويفقدك احترامك لنفسك.

 

إنني لست مؤهلا لأن أفتيك فى مسألة الحلال والحرام .. لكني رغم ذلك أرى أنك قد رفضت هذا الرزق المريب عملا بقاعدة "ما حاك فى صدرك فارفضه" أى ما لم يسترح إليه صدرك تماما فارفضه فلعل فيه شبهه ولعل فيه أذى لا تعلمه .. لكن الله يعلمه .. وأنتم لا تعلمون.

لذلك فأنا أؤيدك بشدة فى هذا التصرف لأن القصة كلها قد "حاكت" في صدري وأثارت شكوكي في هذا العالم الغريب الذى جرت فيه .. فلابد أنه عالم آخر غير الذى نعرفه , يحتاج فيه المرء إلى أن يكون مدججا بالسلاح المادي والمعنوي لكي يحقق أهدافه .. أو لينجو على الأقل من مخالب الذئاب الأخرى التى تستخدم الأسلحة مشابهة!!

إنه عالم لا شأن لنا به تحكمه قوانين القوة لأن الذئاب كما يقول الشاعر تتقي صولة المستأسد الضاري! .. فليحتم الجميع فيه بالاحتياطات والمتاريس من كل نوع وهذا النوع الذى كشفت لنا عنه رسالتك هو أحدثها وياله من اكتشاف جديد "المستشار البوليسي" بعد المستشار القانوني والحارس الشخصي وباقي مظاهر النفوذ التى نعرفها أو لا نعرفها!

لقد أصبت تماما يا سيدي حين رفضت هذا العمل المشبوه .. ورفضت أن تؤجر عن عمل لا تؤديه وجهد لا تبذله, وكل أجر من هذا النوع هو فعلا كما تقول "هبة" وليس أجرا أو رزقا تبطرت عليه .. لذلك فإن زوجتك ليست على حق فى غضبها منك .. ولو أنصفت لأكبرتك وازدادت لك احتراما لأنك رفضت ما قبله للأسف بضعة أشخاص ممن فاقوك شأنا بمراحل فى مراتبهم الرفيعة السابقة ثم قبلوا مثل هذا العمل الشائن فى خدمة بعض من ليسوا فوق مستوى الشبهات .. ولا داعي لحشو الجرح بالملح ..لأنهم يعرفون حقيقة أنفسهم ويعرفون أيضا مدى احترام الآخرين لهم !

 

ولنعد إلى قصتك أنت .. لأقول لك مرة أخرى لا يا سيدي لم تخطئ .. بل أحسنت ..

وأخطأت زوجتك حين غاضبتك لهذا السبب وظلمتك وكان حريا بها أن تساندك بتأييدها إلى أن تجد عملا "جديا" آخر كما أخطأ ولداك حين ضاقا بحدبك الزائد عليهما وانصرفا عنك وأنت في حاجة ماسة الآن إلى محبتهما ودفء مشاعرهما نحوك, سواء أكنت تعمل أم لا تعمل لأن مثلك ينبغي أن يفخر به أبناؤه وزوجته .. وأن يحيطوه بمشاعرهم واحترامهم.

أما العمل .. والدور .. فإن الأحوال لن تبقى على نفس حالها إلى الأبد فلابد أن الفلك سوف يدور وسيسقط المطر.. وتنبت الأرض الخير.. ولابد أن هناك فى مكان ما عملا يحتاج إلى حيويتك وجديتك وأمانتك .. لكنك لم تعرف الطريق إليه بعد .. فلا تقلق .. واصبر وانتظر.


نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي



Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات