اللعنة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 

اللعنة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

اللعنة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

أنا فتاة فى السادسة والعشرين من عمري من أسرة محترمة أبي وأمي مثالا للأبوين الكريمين وقد عشنا معا دائما كأسرة صغيرة سعيدة متحابة يعمل كل منا على إسعاد الآخر وكنت متفوقة دائما فى دراستى ويتنبأ لى الجميع بمستقبل زاهر.. وكنت وحيدة أبوى وكانا سعيدين بى جدا ويظلل حياتنا الحب العميق المتبادل .. ولم أكن أعرف أن أبوى يتمنيان إنجاب طفل آخر إلا حين حملت أمي فجأة وأنا فى بداية دراستي الجامعية فانتابنا جميعا موجة طاغية من الفرح بهذا الحمل السعيد وفرحت أنا به لأني وحيدة ولأنه سيكون لي أخا صغيرا أحبه وأرعاه وفعلا جاء الطفل جميلا وفرحنا به جدا وارتبطت به أنا بشكل غريب إذا ضحك ضحكت وإذا بكى بكيت .

 

ومرت الشهور سعيدة إلى أن بدأنا ملاحظ أنه لا يتقدم سريعا في إستجاباته لمداعبتنا وإلى أنه تأخر في الكلام كما أنه يسير ببطء ولا يجري مع أن نظرته جميلة ووجهه مريح ومعبر بشكل غريب وبدأ القلق يساورنا بشأنه وبدأنا نعرضه على الأطباء وبدأت أشعر بالمأساة تلوح في الأفق وأدعو الله أن يخيب ظني .

لكن تأكد ما حسبته أن شقيقي الوحيد الذي أضاء حياتنا فجأة من هؤلاء التعساء المصابين باللعنة التي لا راد لها .. وهي لعنة التخلف وبدأت مشكلة حياتنا حين تأكدنا من ذلك وكان في الثالثة من عمره وكنت وقتها في نهاية الدراسة الجامعية ولن أقول لك كم ذرفت الدموع على أخي الجميل الذى لا يدري مأساته ولا كم بكيت على مستقبله الغامض ولا كم بكيت لحزن أمي وصمتها ولهذا الحزن الذي خيم على جو الأسرة السعيدة .

 

وبدأت المشاكل تحاصرنا من كل جانب الشارع وفي النادى وفي المناسبات العائلية ففي كل هذه الأماكن يكون أخي هو موضوع الحديث .. ولماذا .. وهل في أسرتكم أحد مصاب بهذا الداء لابد أنه وراثة .. إلخ .

أما نظرات الأطفال فى النادى وتعليقاتهم الجارحة  فكم تمنيت أن تنشق الأرض عندها وتبتلعني أنا وأخي في وقت واحد وتخرجت من الكلية وعينت في وظيفة أكاديمية تتطلب دراسة وقراءة كثيرة ومنتظمة .. وكبر أخي هو الآخر وبدأ يبحث عن الاهتمام في عيوننا ووالدي انشغل بعمله بعد أن يئس من المشكلة وأمي مرهقة من رعايتها المستمرة له .. وهو يريد أن يلعب ويخرج وكل تصرف من تصرفاته يحتاج إلى توجيه مرة واثنتين ومائة .. وأقول كل تصرف وأنا أعني هذه العبارة جيدا , لأن كل تصرفاته ابتداء من اللعب إلى الأكل إلى الملبس إلى الاستحمام إلى استقبال الضيوف ومعاملتهم .. وهو تقريبا في حاجة إلى شخص متفرغ لملازمته ورعايته وتوجيهه , وأنا أعود من عملي فآخذه في نزهة فى الخارج ثم  أعود إلى البيت وأظل جالسة معه أنا وأمي وأبي نلاعبه ونلاطفه لأننا نحبه .. لكنه في النهاية لا يسمح لأي شخص منا نحن الثلاثة أن يقوم بعمل شخصي خاص به لأنه يستنفد وقتنا وطاقتنا كلها .



ولكــاتب هـذه الرسالة المؤلمة أقـول:

إن هذا النوع من المدارس التى ترعى الأبرياء من أمثال أخيك موجودة فى مصر فعلا وتعمل تحت اسم مدارس التنمية الفكرية لكن أعدادها ليست كافية فيما يبدو .. لذلك فإن الحاجة ضرورية فعلا للتوسع فيها وتدعيمها بالإمكانيات الحديثة .. ولقد رأيت في الخارج بعض هذه المدارس التي يقيم فيها الطلبة الاقامة الكاملة تحت إشراف خبراء متخصصين فى تعليم ورعاية أمثال شقيقك وهى تتحمل مسئوليتهم كاملة وتقوم بتنظيم الرحلات وأوجه النشاط الرياضي والاجتماعي الملائم لهم وتحقق نتائج طيبة معهم .. فلم لا تكون لدينا أمثال هذه المدارس ولماذا لم يفكر البعض في إنشاء مدارس خاصة بمصروفات لهذا النوع من الدراسة ليتوجه إليها القادرون بأبنائهم في حين تتفرغ مدارس التنمية الفكرية لرعاية أبناء غير القادرين وقد سمعت أن قوائم الانتظار لديها طويلة وأن الالتحاق بها معضلة كبرى.

 وإلى أن يتحقق هذا الأمل أرجو أن يستجيب لندائك بعض الآباء والأمهات الذين امتحنوا بهذه المحنة الأليمة ليشاركوا بخبرتهم فى توجيهك إلى الطريقة المثلى لرعاية أخيك أعانكم الله على أداء رسالتكم معه وقرب خطواته إلى الشفاء , وقلبي معك ومع كل من امتحنته الأقدار بهذه المحنة التى تهون إلي جوارها كل مشاكل الحياة وآلامها.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات