رجل سياسي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

   

رجل سياسي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

رجل سياسي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987



اكتب إليك بعد أن فاض بي الكيل ولم أجد غيرك يسمعني وأرجو مقدما أن يتسع صدرك لكلماتي. أنا زوجة وأم لطفلين جميلين وزوجي محاسب اساسا لكنه عاش فترة من عمره في بداية عمله متفرغا للعمل السياسي من حضور مؤتمرات وإلقاء محاضرات وتحضير ندوات إلى آخر هذه الأعمال التي تتطلب اللباقة وحسن اختيار الألفاظ والحضور والثقة بالنفس.

وكان زواجي منه تقليديا .. فتمت الخطية والزواج خلال شهر واحد وبعد الزواج بدأت في التعرف عليه فوجدت فيه صفات كثيرة حميدة يحسدني عليها الجميع فهو كريم يؤدي واجبات بيته وأسرته وآخر ما يفكر فيه هو النقود .. حتى إنه لا يعرف حتى الآن كم يبلغ مرتبي ولا كيف أتصرف فيه في الوقت الذي يطلعني فيه على كل شئونه المالية بالتفصيل .

 

وحين تزوجته كان كل ما أحلم به هو أن أجد الشيء الذي افتقدته طوال حياتي وهو الشعور بالأمان فلقد نشأت في بیت محروم من الحنان والأمان وبين أبوين اتفقا على ألا يتفقا في شيء وكانت النتيجة الطلاق والإحساس الدائم بالخوف وافتقد الأمان.

لذلك وجدت في زواجي واحة الأمان التي أتطلع إليها وأردت أن تکون حياتي تعويضا عما لقيته من إحساس الضياع، ومن ومن هنا كانت مشكلتي

وهي الأمان الذي أردته .. فلقد فقدت معه إحساسي بالأمان وأصبحت كراكب القطار الذي ينتظر في أية لحظة وصول القطار لينزل منه وتنتهي الرحلة .. فعند كل خلاف لأي سبب ولو كان تافها يقيم زوجي الدنيا ويقعدها ولا يهدأ حتى يفرغ أكبر قدر ممكن من الاهانة والتحقير لي ومحاضرة طويلة عما أنا عليه من غباء وعدم تقدير للأمور وكيف أن الطفل الصغير يفهم أكثر مني ثم يختتم هذا كله بأنه يستغنى عني واستطيع أن اترك البيت في أي وقت .

 

يفعل هذا يا سيدي وهو يعرف أنه ليس لي مكان آخر اذهب إليه فأبي متوفي وأمي تعيش مع أخي الوحيد وله 3 أطفال فأين اذهب أنا وطفلاي؟

 أما أسلوبه معي فهو أسلوب المحقق فيتصرف معي وكأنني متهمة يحاورني ويستدرجني ويحلل كل كلمة أنطق بها ويستخرج منها معاني ودلالات بعيدة تماما عما فكرت فيه أو قصدته .. وهو يعتقد أنه لا يخطيء أبدا وعنده دائما تفسير لكل شيء أما أنا فكل تصرفاتي هي سلسلة مستمرة من الأخطاء. 



 

وللكاتبة هذه الرسالة أقول:

إنه أقل القليل الذي تستحقه زوجة وأم مثلك يا سيدتي فالإحساس بالأمان هو حق بديهي لكل إنسان في حياته الخاصة وهو الذي يدفع الإنسان للتصرف بطريقة صائبة طبيعية مع الآخرين لأن الخائف تضطرب تصرفاته ويقع في الخطأ أكثر من غيره وليس هذا مقصورا على الإنسان فقط وإنما يمتد أيضا إلى الحيوان فالحيوان حين يخاف يطيش صوابه و يبادر بالعدوان بلا ضرورة فيعرض نفسه للهلاك .

أما مع الإنسان فالخوف يغلف عقله بهالة ثقيلة تفقده القدرة أحيانا على التمييز والإدراك الصحيح. 

ومشكلة زوجك فيما أتصور أنه على شيء من الغرور وأن ممارسته للعمل السياسي لفترة طويلة أعطته إحساسا بالتفرد والامتياز .. لذلك فهو لا يتناقش وإنما يلقي عليك محاضرات في التوعية ولا يعايشك وإنما يطل عليك من عليائه .. فهذا يسهل عليه كثيرا أن يشعرك مع كل خلاف عابر بقدرته على أن يستغنى عنك وهو في الحقيقة أكثر تمسكا بك مما يتصور ومما تتصورين أنت ولن يستطيع أبدا أن يتحمل الحياة بعيدا عن زوجة مخلصة مسالمة مثلك وبعيدا عن طفليه الجميلين .. لكنه الغرور يا سيدتي من جانبه والاستسلام الزائد عن الحد من جانبك أنت أيضا اللذان صنعا هذه المشكلة.

 

أما حكاية التحقيق والاستدراج ثم التحليل والخروج بتفسيرات بعيدة تماما من مظاهر الكلمات فهذه كلها من تأثيرات احتراف العمل السياسي عليه لأن الفكر السياسي قائم أصلا على التحليل والربط بين جزئيات متفرقة للوصول منها إلى نتائج وأحكام، لكن هذا المنطق يصلح للحياة العامة والقضايا السياسية ولا يصلح أبدا للخلافات الزوجية أو المسائل الشخصية .

فليخفف الوطء قليلا فما هو بالزعيم ماو ولا بالمحلل السياسي جيمس روستون .. ولو كان كذلك لعرف أن أمثالهما لا يستخدمون منهج التحليل في حياتهم الخاصة ولا الأسلوب البوليسي في التحقيق مع زوجاتهم.

فجاهدي معه يا سيدتي لإقناعه بحسن نواياك ولا تغيري من أسلوبك معه فلابد أن تنتصر البراءة والصدق والإخلاص في النهاية أما هو فلعله يتعلم من تجارب الأيام أن يضع كل الأمور في حجمها الحقيقي وألا يحول أي خلاف عابر إلى دورة تجريحية تنتهي بإشعارك بأنك "زائدة دودية" يمكن التخلص منها في أية لحظة بلا عناء لأنه إحساس اليم حقا أن يشعر الإنسان بأنه شئ يمكن الاستغناء عنه وأكثر إيلاما منه أن يشعر بذلك وهو يبذل قصارى جهده لإرضاء الآخر وإسعاده والتمسك به.

 مع خالص تمنياتي لك بالأمان والاطمئنان في أيامك القادمة بإذن الله .

 نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات