الوسادة الباردة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

الوسادة الباردة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

الوسادة الباردة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


إن علاقة الأب هي علاقة احتجاج روحي قبل أي شیء آخر ودوره لا ينتهي إلى آخر لحظة في حياته ومهما بلغ أبناؤه من العمر بل لعلهم يحتاجون إليه في الكبر بأكثر مما يحتاجون إليه في الصغر حين تكبر معهم همومهم و مسئولياتهم فلا يجدون لهم في الدنيا كلها من سند ومن نصير سوى أبيهم. أما دور الزوج فهو الحنان والأمان والإيناس والإشباع العاطفي والمادي للزوجة حتى آخر لحظة من العمر ولعلها تحتاج إليه بعد أن يكبر الأبناء وينصرف كل منهم إلى عالمه الخاص بأكثر مما تحتاج إليه وأبناؤها صغار يعتمدون عليها .. لكنه الحمق وقصر النظر والجحود.

عبد الوهاب مطاوع


سأعرض عليك مشكلتي باختصار شديد لأن حالتي النفسية لا تسمح لي بالاستطراد وذكر التفاصيل فبعد عشرين عاما من الحياة الزوجية الناجحة مع زوجتي تقاسمنا خلالها الكفاح من أجل بيت مستقر وأسرة مترابطة ونقلنا خلالها من بلاد الجليد في شمال أوربا من أجل الدراسة إلى بلاد اللهيب في الخليج العربي من أجل رفع مستوانا المادي وقاسينا معا ظروف الغربة في المجتمعات الأوربية والمجتمعات الخليجية .. وبعد هذه السنين الطويلة من الكفاح عدنا إلى وطننا الغالي وقد اكتمل البيت ماديا واستقر الأبناء دراسیا ففوجئت بزوجتي مع كل خلاف بسيط أو أمر بسیط تطالبني بمغادرة البيت لأن دوري قد انتهى الآن وتستطيع الأسرة أن تحيا بدوني الآن.

 



 

 ولكاتب هذه الرسالة أقول:

 ومن قال يا سيدي أن دور الأب والزوج ينتهي بأداء واجبه في تأمين حياة أسرته ماديا وإرساء قواعدها وهل علاقة الأب بأبنائه والزوج بزوجته هي علاقة احتياج مادي فقط فإذا انتهي انتهت معه مهمته .. إن علاقة الأب هي علاقة احتجاج روحي قبل أي شیء آخر ودوره لا ينتهي إلى آخر لحظة في حياته ومهما بلغ أبناؤه من العمر بل لعلهم يحتاجون إليه في الكبر بأكثر مما يحتاجون إليه في الصغر حين تكبر معهم همومهم و مسئولياتهم فلا يجدون لهم في الدنيا كلها من سند ومن نصير سوى أبيهم. أما دور الزوج فهو الحنان والأمان والإيناس والإشباع العاطفي والمادي للزوجة حتى آخر لحظة من العمر ولعلها تحتاج إليه بعد أن يكبر الأبناء وينصرف كل منهم إلى عالمه الخاص بأكثر مما تحتاج إليه وأبناؤها صغار يعتمدون عليها .. لكنه الحمق وقصر النظر والجحود واستسهال الكلمة الجارحة في أي خلاف طارئ مما لا تخلو منه الحياة بدلا من التروي وحصر كل خلاف في إطاره الطبيعي ووضع علاقة الزوج بالزوجة في حرز حرير يسمو على كل خلاف عابر.

 

 لقد ذكرتني رسالتك فجأة برسالة تلقيتها من سيدة في الخامسة والخمسين كتبتها إلي تعليقا على رسالة نشرتها منذ فترة لزوجة تشكو من زوجها ، فمست قلبي بكلماتها الصادرة من أعماق جحيم التجربة وكانت تقول : قل لهذه الزوجة ومثيلاتها ألا يبددن سعادتهن في الصغائر وأن تحفظ كل منهن زوجها وتحسن عشرته لأن الدنيا قصيرة والأيام تخفي لكل إنسان ما لا يعرفه فهاأنذا كنت أعيش مع زوجي كأي زوجين نتفق أحيانا ونختلف أحيانا وكنت أشكو من بعض ما يشكين منه الآن ثم اختاره الله فرحل عنى منذ عامين وانصرف عني الأبناء إلى حياتهم الخاصة وأصبحت أعيش وحيدة في سكني أتذكر أيامه وأتنسم رائحته في كل موضع من البيت وافتقد كل شيء فيه حتى خصامه وخلافاته معي وأنام وحيدة على وسادتي الباردة .. وأصحو وحيدة فأتذكر كيف كنت اصنع له الشاي وادعوه له ونتبادل تحية الصباح ونفطر معا ونقرأ الصحيفة معا .. ويمضي اليوم كله في حديث لا ينقطع ولو تخللته بعض المناكفات .

وأنا الآن أمضي معظم أيامي وحيدة صامتة أكاد لا انطق بكلمة إلا في صلاتي .. فقل لهم ذلك يا سيدي فكل شيء يهون إلا الفراق الذي ليس بعده تلاق ليعرفوا قيمة حياتهم الآن قبل أن يبكوها كما أبكي الآن على ما كان وما راح والسلام عليكم ورحمة الله .

 

ولا أجد أنا أيضا ما اهديه لزوجتك أبلغ من هذه الكلمات المتحسرة فهل تتعلم الدرس مرة قبل فوات الأوان أم لابد دائما من أن نتجرع الكأس حتى الثمالة لكي تعرف بعد ذلك كم هي مريرة.

أما قولك بأنها ظاهرة تهدد المجتمع فهذا ما لا اتفق معك فيه ، فليست هي بالظاهرة العامة ولا بالخطر الذي يهدد المجتمع، لكنها "نتوءات" طفيفة تظهر لدى البعض ويغذيها افتقاد الدفء العاطفي في العلاقة الزوجية .. ويقوي من أزرها الشعور المزيف بالاستغناء، والغرور بالدنيا التي لا يغتر بها عاقل ولا يأمن إليها.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات