في الطريق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987


في الطريق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

في الطريق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1987

 

أنا يا سيدي طبيب ناجح في عملي ولدي عيادة تدر عليَ دخلا طيبا .. وقد اشتريت سيارة وشقة تمليك وحياتي مشحونة بالعمل والكفاح لا يهون عنها سوى بعض السهرات العائلية المرحة بين إخوتي الأحباء وأمنا المكافحة, نستروح فيها نسيم الحياة ونخفف فيها عن أمنا بعض ما شهدته حياتها من كفاح بعد وفاة أبينا ونحن صغارا إلى أن تخرجنا جميعا فتخرجت شقيقتي صيدلانية وشقيقتي الصغرى مهندسة وتخرج شقيقي صيدليا وشقيقي الآخر مهندسا أما أنا فأنهيت دراسة الطب وبدأت حياتي العملية .. وحققت نجاحا أحمد الله عليه ولم يكن ينقصني إلا الزواج .. وأرغمنا أمنا على أن تخلع السواد الذي أرتدته بعد وفاة أبينا ونحن صغار .. وابتسمت لنا الحياة بعد طول صبر وكفاح .. لكن وآه من لكن كما تقول دائما.

 

فذات يوم خرجت مع أمي وأختي وزوجها إلى زيارة أسرة قريب لنا وأمضينا معهم السهرة ضاحكين سعداء .. وخرجنا لنعود إلى البيت فركبنا جميعا سيارتي التي أقودها وفي ميدان الدقي دهمتنا فجأة سيارة لوري من لوريات الأمن, فأصيب زوج شقيقتي إصابة بالغة وبعد 4 أيام من العذاب والبكاء انتقل إلي جوار ربه, وأصبحت شقيقتي أرملة وأما لطفل عمره 5 سنوات وجنينا في علم الغيب لن يرى أباه.

وعاد السواد إلى حياتنا من جديد .. وعادت صورة أمي الباكية مرة أخرى .. وأصبح الجميع في أسرتي  يتساءلون لماذا .. أما أنا فمطالب بالإجابة على سؤال آخر هو لماذا في سيارتي التي أقودها وما هي مسئوليتي عن تعاسة أختي؟.. وكلما رأيت زوجا وزوجة تذكرت كيف حطمت حياة أختي مع أني لم أكن أقود السيارة باستهتار وأن اللوري هو الذي قطع علينا الطريق فجأة ومع ذلك فمازلت أتعذب .. ومازلت أفكر في الحادث ليل نهار وأثناء الكشف على مرضاي وأثناء انفرادي بنفسي وفي كل مكان وكل ما حولي يذكرني بأختي وبزوجها الذي أحببته كأخ لي حتى لقد فكرت جديا في الانسحاب من الحياة .

 

إني أرجوك ألا تقول لي استشر طبيبا نفسيا لأني طبيب وأعرف حالتي جيدا, وإنما أريد أن أعرف هل كنت أنا السبب المباشر لتعاسة شقيقتي ولوفاة زوجها حتى لو كنت غير مخطئا في الحادث .. أم أنني كنت الأداة التي أختارها القدر لينفذ مشيئته في زوج أختي وأسرتها .. وهل لو لم أقد سيارتي لما مات زوج شقيقتي؟ قل لي بربك رأيك لكي ارتاح لكن لا تنصحني بالذهاب إلى الطبيب النفسي؟

 

ولــكـــاتب هذه الرسالة أقول:

لن أقول لك يا سيدي أستشر الطبيب النفسي لكني سأقول لك فقط : "واذكر ربك إذا نسيت"

واأذكر أن الحياة والموت من أمر الله وحده وأن لكل إنسان موعدا مسجلا في اللوح المحفوظ .. فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون وأنه تختلف الأسباب والموت واحد .. فإذا حان الأجل لا يغير منه شيئا إن كان المرء راكبا سيارتك أم راقدا في فراشة أم سابحا في النهر .. أو نائما على مقعد وثير في الطائرة .

فهون على نفسك يا صديقي فلست مسئولا عن تعاسة شقيقتك .. ولا أنت مسئول عن حرمان طفلها من أبيه .. وإنما هو القضاء والقدر والتسليم بهما كما تعرف من أركان الإيمان مع تمنياتي لك بإستعادة صلابتك وتوازنك سريعا لكي تساند شقيقتك ووالدتك في هذه المحنه الأليمة.

فإذا كان هناك ما يقال بعد ذلك فهو كلمة لمن يطلقون هذه الغيلان المتحركة في شوارع القاهرة والمدن يقودها مجندون جهلاء تعلموا القيادة في عشرة أيام وانطلقوا يرتكبون بها الفظائع بسبب جهلهم وقلة خبرتهم .. ألم يحن الوقت بعد لابعادهم عن هذه اللوريات الخطرة والاستعانة بسائقين محترفين لها ولو احتاج الأمر للاقتراض لكي ندفع لهم ما يستحقونه من مرتبات؟ أم أن حياة البشر لا قيمة لها أمام الميزانيات والقواعد واللوائح؟

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات