مهمة ثقيلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
تلقيت في بريدى هذا الأسبوع هذه الرسالة :
سيدي أنا أب لأبناء وبنت واحدة ربيتهم جميعا على تحمل المسئولية والحرية الشخصية .. ومنذ 8 سنوات تعرفت ابنتي بشاب متطرف دينيا تقدم لخطبتها مني .. وفي الحقيقة إني لم أكن مرحبا كثيرا بهذا الزواج لأني لا أحب التطرف في أي شيء .. وحاولت إقناعها بعدم قبوله محذراً إياها من أنه سوف يفرض عليها أشياء كثيرة لن ترضاها .. لكنها أبدت استعدادها لقبول كل ما يأمرها به وأصرت على الزواج منه .. فلم أقف في طريقها لأن هذا هو اختيارها .. ولأنها حياتها .. لأنى أحسست أنها تحبه حبا صادقا كما احسست أيضا أنه يبادلها نفس الشعور .
وتزوجت ابنتي ومرت السنوات واكتشفت في زوج إبنتي صفات طيبة كثيرة .. وبدأت أحبه .. بل وأحببته بالفعل كما أحب أبنائي .. فقد كان مثالا للزوج المتعاون الذي يحب زوجته ويرعاها ويحسن معاملتها ويرعى الله في تصرفاته معها .. وعلى عكس ما توقعت ولم يطلب منها أية طلبات مبالغ فيها بل كان لها نعم الزوج الوفي المخلص الذي يساعدها في كل شيء وهى اصلا قليلة الخبرة حتى في تنظيف البيت والطبخ وتربية الأولاد .. ووجدت فيه إبنا جديدا لي وإتسمت علاقتي به بحنان أبوي ربما يزيد عما تتسم به علاقتي بأبنائي.
وبعد 8 سنوات من الزواج بدأ زوج إبنتى يشكو من عدم قيام زوجته بواجباتها المنزلية ومن اعتمادها عليه في كل الأمور والواجبات وشكا لي من ذلك فقلت له أنه هو الذي عودها على أن يساعدها في كل شيء منذ بداية
ارتباطهما وأنها إمراة عاملة مثله ويجب مراعاة ذلك ورغم ذلك إنتحيت بابنتي جانبا وطلبت منها أن تتحمل عبئا أكبر في مسئولية بيتها وتربية أولادها .. ومضت هذه الأزمة العابرة بسلام.
لكني بتجاربي وخبرتي في الحياة بدأت أشعر ان هناك أسبابا أخرى وراء شكوى زوج إبنتي وتغيره تجاهها بعد أن لاحظت أنه اصبح عصبيا معها ومع أولاده .. ثم بعد أن أصبح يغيب خارج بيته كثيرا وكان قبل ذلك يغادر عمله إلى بيته .. ولا يتركه إلا لمشوار عائلي أو لقضاء طلبات الأسرة من الخارج .. ولا يخرج إلا مع زوجته وأولاده وزاد من شكوكي أنه في جلساتنا العائلية بدأ يردد على سبيل الفكاهة أحيانا أنه يفكر في الزواج من جديد تأسيا بوالده الراحل الذي تزوج أكثر من مرة وله أبناء من كل زوجة .. وبصهره الذي هو أنا لأني تزوجت بعد وفاة زوجتي الأولى وكنا نضحك ونأخذ الأمر كدعابة خاصة أنني كنت أقول له لو سألت أباك هل كان سعيدا لزواجه أكثر من مرة لعرفت الحقيقة .. أما عني فلو لم ترحل زوجتي عن الدنيا .. لما أقدمت على الزواج من غيرها .
لكن هذه الأحاديث العابرة ضاعفت من شكوكي خاصة أنه بدأ يغيب عن البيت كثيرا مدعيا أنه يعمل عملا إضافيا ثم تيقنت أخيرا من أنه تعرف على فتاة صغيرة نسبيا وأنها تشغل تفكيره ووقته .. وفكرت كثيرا ماذا
أصنع هل أواجهه .. أم أتجاهل الأمر لعله يجتازه بنفسه .. ثم قررت أن أصارحه وصارحته بهدوء ووضوح قائلا له : إنني أخاطبه كأب له ولابنتي معا وليس كصهر فقط .. وإني أخشى أن يجني على زوجته وأبنائه بما يفكر فيه .. فواجهني بصراحة وأمانة وبلا لف أو دوران کعهدي به بأنه فعلا ينوي الزواج وأن ذلك من حقه لأنه تنقصه بعض الأشياء لدى زوجته .. وأنه لن يهدم بيته ولن يبعد عن أبنائه وإنما سوف يعدل بين الزوجتين.
وناقشته طويلا وحاولت إلقاءه عن عزمه .. ورويت له عشرات الحكايات عن مشاكل الزواج الثاني وحيرة الأبناء بين الأبوين .. فلم أصل معه إلى نتيجة .. فحجته جاهزة .. وهو أن ذلك من حقه شرعا .. وأن لديه أسبابه التي تعطيه حق الزواج مرة أخرى وأن المهم هو العدل بين الزوجتين فتركته لنفسه أملا أن يجتاز هذه الفترة .. وأن يعود إلى نفسه لكن الفاس وقعت في الراس یا سیدي .. وتزوج زوج إبنتي من فتاته الأخرى ولم تعرف إبنتي بالخبر لأن المأذون لم يبلغها .. أو أبلغها وتم حجب بلاغه عنها .
وبالرغم من أن بعض أقارب زوجها الذين يحبون إبنتي ولا يوافقون على هذا الزواج حاولوا إبلاغها بالأمر عن طريق التلميح لها إلا إنها لم تفهم الاشارة ومضت تعيش حياتها هادئة هانئة تحب زوجها وترى فيه أفضل زوج في العالم .. وإن كانت قد بدأت تشكو من كثرة بعاده عنها الآن بعد أن أصبح يغيب عن بيته بالأيام مدعيا أنه كان على سفر من أجل عمله.

ولكاتب هذه الرسالة أقول :
يا سيدي إنني لست من انصار إخفاء الحقائق عمن يهمنا أمرهم خوفا من أن نصدمهم ونبدد سعادتهم لسبب بسيط هو أن الوهم ليس سعادة ولأنه من الأفضل كثيرا للإنسان أن يعيش حياته وهو مدرك لكل حقائقها من أن يعيش سعادة وقتية موهومة لا تلبث أن تتبدد سريعا حين تصطدم بالواقع .. وحدث هام كزواج زوج إبنتك لن يخفى طويلا مهما كانت براعته .. ومهما كانت سلامة طوية إبنتك التي لم تفهم التلميح .. ولم تساورها الشكوك في زوجها حتى الآن .. لذلك فإن تأجيل إبلاغها به لن يعني سوى تأجيل العذاب والمعاناة لفترة قصيرة .. لكنه سوف يضر بابنتك أكثر مما يفيدها وسوف يضاعف من معاناتها فيما بعد .. لماذا ؟ لأن هدف المشرع من ضرورة إبلاغ الزوجة بزواج زوجها هو أن يعطيها الحق في الاختيار بين الاستمرار مع زوجها وبين طلب الانفصال عنه ، وإخفاء هذا النبأ عنها يسلبها حقا أساسيا من حقوقها فضلا عن أنه أكثر إيلاما على نفسها من معرفتها بالأمر الواقع في حينه .. فما اقسى ان يكتشف الانسان بعد فترة طويلة ربما طالت لسنوات أنه كان ضحية للخديعة من أقرب الناس إليه .. وما اقسى أن يكتشف أن من يهمهم أمره كالأب قد شارك في خداعه من حيث لا يريد بحجة الاشفاق عليه من قسوة الواقع .
وبعيدا عن نداء العاطفة الذي يدفعك للتردد في إبلاغها .. فمن مصلحة إبنتك أن تعرف الآن أوضاع حياتها ، وأن تختار مستقبلها على ضوئها .. فإذا كانت سوف تختار الانفصال ، فمن صالحها أن تتخذ قرارها الآن وقبل أن يسرق الزمن شبابها ، وإن كانت سوف تختار الاستمرار ورعاية الأبناء ومحاولة استعادة زوجها ، وأغلب ظني أنها ستفعل فمن مصلحتها أن تبدأ معركتها لاسترداد زوجها الآن قبل الغد فلقد شكا زوجها مثلا من بعض شأنها .. ولعل زلزال الزواج الثاني يدفعها إلى التغيير ومحاولة إصلاح عيوبها الصغيرة ومحاولة اجتذاب زوجها إلى بيته وأبنائه قبل أن تتفاقم نتائج الزواج الثاني ويصبح من الصعب الرجوع عنه.
وفي كل الأحوال .. فلا مفر من مواجهتها بالحقيقة يا سيدي .. فلا تتردد في أداء هذه المهمة الثقيلة .. فليس هناك من هو أقدر منك على تخفيف وقعها عليها بحنانك الأبوي .. وبحكمتك التي انضجتها خبرة السنين .. ولا تظن أنك أنت من سوف تهدم سعادتها بكلماتك .. فلقد هدمها بالفعل من أقدم على مغامرة الزواج .. ولست انت .
لكنك أب يؤدي واجبه تجاه إبنته . إنه موقف صعب فعلا يا سيدى لكن من قال إن الحياة نزهة نيلية فى ليالى القمر وليست مسئولية وواجبا ومواقف صعبة عديدة كهذا الموقف ؟
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1987
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر