المهمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
اكتب إليك هذه الرسالة بمبادرة
شخصية مني بغير أن اطلع عليها صاحب الأمر وأرجو أن تساعدني في حل مشكلته .. أما
صاحب المشكلة فهو أبي .. وأما أنا فأنا فتاة انتهيت حديثا من دراستي
الجامعية أعيش مع أبي وحيدين منذ ١٥ سنه أي منذ أن فارقتنا أمي رحمها الله وآثر أبي
ألا يتزوج بعدها لكيلا يأتي لي بزوجة أب قد لا تكون رحيمة بي .. ومنذ ذلك الحين يا
سیدي وأبي هو أبي وأمي وأسرتي وعالمي كله .. يصحبني إلى مدرستي كل صباح ويصحبني إلى
البيت بعد الظهر ويشرف على شئوني.
ولأن التجارب الأليمة كما تقول تكسب الإنسان خبرة أكبر مما تتيحها له سنه الصغيرة .. فلقد تعلمت من وحدتنا معا أشياء كثيرة أكبر من سني بكثير ، فنحن بلا أهل ولا أصدقاء .. وأمسياتنا نقضيها وحيدين في البيت أو في الخروج لشراء مستلزمات البيت .. وخلال سنوات دراستي كنا نتقاسم شئون البيت بيننا فأهتم بشئونه المنزلية وأعد له ملابسه وكل احتياجاته وارتب له فراشه ويهتم هو بشئون دراستي ويشاركني غسل ملابسنا ونشرها وإصلاح الأجهزة المنزلية وتدبير أمور المعيشة .
ولقد مضت
سنوات العمر سريعة وليس لي صديق سوی أبي وليس لأبي من يهتم به في الحياة سواي ..
وكلما ثقلت عليه الوحدة وانعكست آثارها عليه اقترح عليه أن يتزوج فيقول في باسما أنه
سوف يبدأ حياته من جديد
عندما انتهى من دراستي الجامعية .. وأنه يريد أن یؤدي رسالته كاملة تجاهي فيتأكد
من حصولي على الشهادة الجامعية كسلاح في يدي .. وإذا كانت في العمر بقية فإنه سيبدأ
حياته من جديد وهو مستريح الضمير.
ولكم أكبرت فيه ذلك يا سيدي ولكم أحببته لرقته معي
وعطفه علي .. فأبي كان يعاني من وحدته الشخصية كل لحظة ولأنه متدين جدا فلقد كابد
وحدته في ألم بغير أن يشعرني بذلك .. لكني لاحظت منذ فترة غير قصيرة أن وحدته قد ثقلت
عليه وأنه أصبح كتلة من الحزن واليأس مما جعلني أحس بالمسئولية عنه وعن عذابه خاصة
أنني قد تخرجت من الجامعة منذ أسابيع وأصبحت أحس أن هناك مهمة مقدسة ينبغي أن
أؤديها هي أن اختار لأبي زوجة مناسبة وأن أقنعه بها وبأني سأكون أسعد إنسانة في
الوجود حين يتزوجها ويبدأ حياة سعيدة معها.
إنني أريد أن أقوم بمهمة الخاطبة لأبي يا سيدي ..
فهل في ذلك غرابة ؟
إن الأب يخطب
لابنه وأحيانا لابنته والأخ قد يخطب لأخته من يتوسم فيه الاستقامة والشرف .. وأنا أريد أن أخطب
لأبي لكن المشكلة كما قلت لك من قبل هي أننا بلا أهل ولا أصدقاء لذلك فلقد عجزت
حتى الآن عن العثور على من أرشحها له.
إنني منذ تولاني الإحساس وأنا أتصفح وجوه جاراتي
وكل من أقابله من السيدات متوسطات العمر في الأسواق والمحلات .. كأني ابحث بينهن
عمن تصلح لأبي .. ولم أجدها بعد .
إن أبي عمره ٤٧ سنة ، ورقيق جدا
.. ووسيم جدا . ويستحق كل خير وهو موظف .. ولا شروط لي في الزوجة سوى أن تكون في
مثل ظروفه لكي تعطيه الحب والحنان وتعوضه عن سنوات الوحدة الطويلة.
ولقد اتخذت بيني و بين نفسي
قرارا بأن أبحث عمن أرشحها زوجة له بغير أن استأذنه في ذلك لأنه يخجل من إثارة هذا
الحديث معه وحين أجد من اقتنع بأنها مناسبة له ادعوه إلى رؤيتها فإذا أعجبته طلبت
منه التعرف عليها وعلى أهلها والتقدم لخطبتها .. فهل في ذلك خطأ ؟ .. ثم كيف أجد
مثل هذه الزوجة التي تعيد السعادة إلى قلب أبي؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
لا یا آنستي ليس فيما تفكرين فيه أي خطأ بل هو
تفكير سليم ونبيل من ابنة طيبة بعيدة تماما عن الأنانية مثلك . فلقد مست قلبي
كلماتك الرقيقة عن أبيك الذي أثرك على نفسه طوال السنوات الماضية .. وتريدين الآن
أن تردي له الجميل بإيثار سعادته على أية اعتبارات أخرى .
أنت صاحبة قلب حكيم یا ابنتي رغم صغر سنك فالحب عطاء متبادل وإيثار متبادل أيضا ولقد أعطاك أبوك الحب والرعاية والاهتمام فأعطيته الحب والعرفان والرغبة في إسعاده ومثل أبيك يستحق من الدنيا بعد أن أدى رسالته نحوك أو أوشك على إتمامها أن تكافئه بزوجة عطوف يسكن إليها لأن الحياة أصعب من أن يواجهها المرء منفردا وأنت إن عاجلا أو آجلا سوف تكون لك حياتك الخاصة التي تشغلك عنه ومن الحكمة فعلا أن يستعد أبوك لهذه المرحلة بالزواج الآن وهو في سن مناسبة ، ممن تهتم بأمره وتشاركه لحظات السعادة والألم وترد عنه إحساسه بالغربة والوحدة الداخلية وهذه هي حكمة الزواج الحقيقية يا صديقتي ..ففي مثل عمر أبيك يسمى هذا الزواج بزواج "الإيناس" الذي لا تقود إليه الرغبة في الانسال بقدر ما تقود إليه الرغبة في أن يكون للمرء رفيق يؤنس وحدته ويبادله المشاعر والاهتمامات ويخفف عنه هجير الحياة.
إنني أحي مشاعرك السامية وأؤيدك تماما في مهمتك النبيلة هذه .. وأتمنى لو استطعت مساعدتك فيها وأنصحك بالاستعانة فيها بمن تتوسمين فيهن الميل إلى مساعدة الآخرين من جاراتك مع خالص تمنياتي لك بالتوفيق في المهمة والسعادة في حياتك.
![]() |
بعد النشر بأسابيع |
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر