ألبوم الذكريات ..رسالة من بريد الجمعة عام 1986
أتلقي من أمثال هذه الرسالة بعض
الرسائل من حين إلى آخر فأقرؤها وأتأثر بآلام كاتباتها..
ثم لا أجد ما أقوله لهن سوى بعض
كلمات المشاركة والتشجيع .. فأوجهها إليهن غالبا في ردودي الخاصة لأن ما ترويه هذه
الرسائل من قصص يدخل غالبا في دائرة شئون الحياة العادية التي تقع بكل أسف كثيرا
في مجتمعنا.
لكني قررت أن أنشر هذه الرسالة
لأنها وإن كانت تحكي نفس القصص القديمة إلا أن صدق تصوير كاتبتها لمشاعرها خلال
محنتها الشخصية، أو هز مشاعرها واسمعني ما يمكن أن أسميه بالصوت الآخر الذي يصم
البعض آذانهم عنه خلال انشغالهم بالصوت الجديد.
تقول كلمات الرسالة:
أنا يا سيدي سيدة في منتصف
العمر نشأت في أسرة عريقة وتلقيت تعليما أجنبيا حتى تخرجت في الجامعة وكان أبي
مستشارا هيأ لنا حياة كريمة .. وأنا من حيث المظهر جميلة بشهادة الجميع .. ليس هذا
النوع من الجمال الصارخ الأخاذ الذي يبهر الأنظار من أول نظرة ثم لا يدوم في النفس
إلا قليلا, وإنما جميلة هذا الجمال الهادئ الذي يلمس النفس بهدوء ويبقى فيها بمرور
الأيام, وقد وهبني الله رقة المشاعر والهدوء المحبب إلى النفس لا الهدوء القاتل
البارد, كما أنني والحمد لله بشهادة الآخرين جذابة الحديث حلوة المعشر.
وبعد أن تخرجت من الجامعة تزوجت
من طبيب زواجا تقليديا , لكنه كان والحمد لله زواجا ناجحا موفقا يجمعنا التكافؤ في
كل شئ والتفاهم ودام زواجنا موفقا سعيدا 18 سنه من السعادة والحب والاحترام
المتبادل كنت خلالها أعمل وأحقق في عملي نجاحا بعد نجاح .. وكان هو يعمل في مجاله
ويحقق النجاح بعد النجاح, وأسرتنا الصغيرة تعد مثالية في أعين الجميع فالأولاد
مهذبون ناجحون في دراساتهم والزوجان متحابان متفاهمان نمضي الأمسيات العائلية معا
ونزور ونتزاور ونخرج في أيام العطلات في رحلات ممتعة ولنا ذكريات جميلة في المصيف
والمشتى نسترجعها كل حين ونسجلها في صور تذكارية يضمها ألبوم صور العائلة , ونقلب
فيه من حين إلى آخر فنرى صورنا ونحن وحيدان بلا أبناء ثم صورنا ومعنا طفلنا الأول
ثم صورنا مع الطفلين الأولين ثم صورنا مع كل الأولاد, وصورنا ونحن نتنزه على
الأقدام بلا سيارة ثم صورنا ولنا سيارة صغيرة قديمة ثم ولنا سيارة كبيرة ثم ولكل
منا أنا وزوجي سيارته وصورنا ونحن نقيم مخيما صغيرا على شاطئ القناة أو في مرسى
مطروح وهكذا.
ومضت الأيام سعيدة لكني منذ
فترة بدأت ألحظ على زوجي بعض التغيير فلقد أصبح فجأه أكثر عصبية مع الأولاد ثم معي
ثم بدأت عصبيته تتحول إلى غلظة معهم ومعي وفسرت الأمر في البداية بإرهاقة العصبي
واقترحت عليه أن نقوم بأجازة طويلة لكي تستريح أعصابه فلم يقبل إقتراحي ورفضه
بجفاء, ولم تمض غير أيام حتى هزني بمفاجأة مذهلة أعلنها لي بلا تردد وهي أنه قد
تزوج زوجة أخرى, ومن هي الزوجة الجديدة ممرضة عنده أصغر منه في السن وأقل منه في
المستوى العائلي والاجتماعي.
وانهرت وتزلزل كياني واندفعت
بلا وعي أناشده بكل غال وعزيز لدينا أن يرجع عن مغامرته هذه واستحلفته بعشرتنا
الجميلة وأولادنا وحبنا أن يتوقف عن هذا الخطأ قائله له أن الرجوع عن الخطأ فضيلة
وأنني سأغفر له ما حدث إذا ما رجع عنه وأفاق لنفسه وعرف لنفسه قدرها وعرف لبيته
وأولاده وزوجته حقهم عليه .. وأكدت له أن كل إنسان معرض لمثل هذه النزوة لكن
العاقل هو من ينقذ نفسه منها في أسرع وقت وقبل أن يخسر الكثير من حب أبنائه وزوجته
واحترام مجتمعه .. فكان يقول لي كلاما غير مفهوم لكنه في النهاية يتمسك بما فعل
ويطلب مني الاعتراف بالأمر الواقع فطالبته بالطلاق حفاظا على كرامتي فرفض بشدة أن
يطلقني بحجة الأولاد وأصر على الجمع بيننا كل واحدة منا في شقة مستقلة.
فاستلمت لقدري لكني دفعت الثمن غاليا من صحتي .. ألا ما أقسى الرجال يا صديقي يجئ الرجل منهم بعد عشرة العمر الجميلة وبعد نمو الأبناء وتعمق المشاعر بين الزوجين وتخللها لدم الزوجة ليقول للواحدة منا ببساطة تزوجت وهذا أمر الله ولا حيلة لي فيه وستعيشين مكرمة معززة بين أولادك وستصلك كل حقوقك فكأنه يقول لها وكل كلمة يطعنه خنجر في قلبها خنتك مع غيرك وسأستمر في ذلك وسأبيت في أحضان غيرك فلا تغضبي وإنما عيشي كجاريه لتربية الأولاد لكيلا أحمل أنا همهم وأنا لاه مستمتع بحياتي الجديدة مع زوجتي الصغيرة وستصلك كل حقوقك كاملة.
أي حقوق هذه يا صديقي التي يمكن
أن تعوض المرأة عن رجلها الذي أحبته وأخلصت له وامتزج دمها بدمه طوال عشرين سنة ..
وأي شئ يمكن أن يعدل شعورها القديم بأنها الملكة التي لا شريك لها في قلب زوجها.
وأي حياة هذه أن أعرف أن حبيب
العمر قد أصبح من حق غيري وأن علي أن أفرح بأني مازلت على ذمته وبأني أرعي له
أولاده لكي يتخفف ضميره من عبء التفكير في رعايتهم.
ألا ما أقساكم أيها الرجال وما أشد أنانيتكم.
لقد عشت أياما سوداء بعد هذه
المفاجأة وكانت الصدمة شديدة علي فعافت نفسي الطعام لأيام طويلة.. وكلما نظرت في
عينيه رأيت فيها الخيانة والخديعة بدلا من الحب والحنان .. وبدأت أذبل وانهار ونقص
وزني 8 كيلو جرامات في شهرين .. ولم أجد ملاذا لي سوى في الصلاة والدعاء والتضرع
وقراءة القرآن الكريم لعلي أجد فيها ضالتي وشفائي.
ورغم مرور 4 أعوام على هذه المحنه فإن جرحي لم يندمل بل يزداد مع الأيام إيلاما ونزيفا .. وكلما سرحت بخواطري بعيدا أو كلما تصفحت ألبوم الذكريات ساءلت نفسي .. أين ذهب كل هذا الحب؟ وأين هذه الأيام الجميلة؟
ولكـاتـب هذه الرسالة أقول:
نعم يا سيدتي .. إن ما يقع
علينا من الآخرين مقدور علينا لكن ذلك لا ينفي مسئولية كل إنسان عما يفعل بحياته
وحياة غيره معه.
ولا شك أن زوجك سامحه الله قد
جنى عليك بنزوته الطارئه وهو في قمة العمر التي يستعد الإنسان فيها ليجني ثمرات
كفاحه ويستمتع بعائدها لكنه فيما يبدو قد قرر أن يستمتع بها وحده ناسيا شريكة عمره
ورفيقة كفاحه! وهكذا بعض الرجال يا سيدتي لكنهم ليسوا جميعا سواء وهكذا أيضا بعض
النساء لكنهن لسن أبدا كل النساء , وفي الحياة دائما نماذج عادلة خيرة ونماذج
ظالمة أنانية لذلك فإن ما جرى لك ليس من قوانين الحياة وإنما هو من استثناءاتها ..وهذا
هو الجانب المقدور عليك فيما جرى .. وما أكثر من تعذبن مثل عذابك لكننا لم نقرأ من
قبل لواحدة منهن تصف بمثل هذه الشفافية الحزينة أحاسيسها كزوجة مهجورة تعسة .. فلعل
هذه الصورة تروع بعض المغامرين عن ارتكاب المزيد من المغامرات فما أظن أن أحدهم قد
تصور قبل هذه الرسالة عمق الألم الذي يحفرونه في قلوب زوجاتهم بطعنهم لهن مثل هذه
الطعنة الغادرة في نفس الوقت الذي تتصور فيه الزوجة أن روابطها بزوجها قد استعصت
على الزمن .. فلعل هذه الصورة الحزينة تطلع البعض على هذا الجانب الآخر من القصة
التقليدية الذي لا يلتفتون إليه كثيرا خلال اندفاعهم المحموم في نزواتهم .
ومن رأيي دائما أن السعادة
الحقيقية لا يمكن أن تتحقق لإنسان على حساب تعاسة غيره وإيلامه . وما أظن أن
الإنسان يستطيع أن يسعد السعادة الحقيقية وبالقرب منه من يرون في هذه
"السعادة" بلاءهم وتعاستهم وأسباب انهيار سعادتهم لذلك قيل أنه ما استحق
الحياة من عاش لنفسه فقط ولذلك أيضا فأني أدعوك إلى الحذر من الاعتماد على زميل
العمل ومن هذا الانجذاب إليه .. فأنهما بداية الطريق إلى مأساة جديدة تدفع ثمنها
زوجة أخرى وأبناء آخرون .. فإذا كنت قد تجرعت كأس الألم وعرفت مرارته.. فكيف ترضين
به لغيرك وأنت السيدة رقيقة القلب والمشاعر التي تعرف ربها ودينها .
والحق أني كدت أحذف هذا الجزء
من رسالتك لكيلا يشوه هذه الصورة
الرومانسية الحزينة لزوجة تهدمت سعادتها بلا ذنب جنته .. لكني رأيت في النهاية ألا
أتدخل في رسالتك لكي أحافظ على صدقها.. ولأن هذا الأمر أيضا هو من ملامح الصورة
التي يفضل الرجال تجاهله بعد إقدامهم على هذا العمل لذلك فإني أدعوك إلى فض هذه
العلاقة الحميمة ما دمت لا تزالين تحتفظين بعلاقتك الزوجية مع زوجك الغادر.. لأن
مثل هذه العلاقة مع زميل العمل لا تعريف لها إلا بهذا الإسم البشع الذي أربا بك أن
تسقطي فيه وقد عانيت مرارته مع زوجك .. وأنت
مخيره يا سيدتي فإما أن تبقي كما أنت وترضي بما اختارته لك الحياة وتحفظي نفسك من
التعرض للنزوات, وإما أن تحزمي أمرك وتستبعدي حريتك وتفعلي بحياتك ما تريدين غير
ملومة من أحد .
لكني لو سألتني الرأي فإني
سأنصحك بشئ واحد هو ألا تنسي أبناءك في أي قرار تتخذينه بشأن حياتك.
ومن يدري فربما يعود الغائب
ويرتد العقل إلى صاحبه وتضيف الحياة إلى ألبوم الذكريات صفحات جديدة وصورا جديدة.
وما أكثر التجارب التي استمرت
سنوات ثم عاد بعدها الغائب من غيبته نادما وما أكثر ما نرى في الحياة من تجارب
مماثلة اختارت فيها الزوجة أبناءها .. ولم تعدل بهم أحدا لكني رغم ذلك لا أفرض
عليك رأيا لأن لكل إنسان ظروفه ومن حقه أن يختار ما يحقق له السعادة بغير الاضرار
بأحبابه الصغار ولا بالآخرين.
فتذكري ذلك دائما يا سيدتي .. واختاري
ما تشائين مع تمنياتي لك بالسعادة.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1986
كتابة النص
من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر