ملابس الخروج .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

ملابس الخروج .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

                        ملابس الخروج .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986 

 

أكتب إليك هذه الرسالة بعد تردد طويل .. لا لان مشكلتي مشكلة شديدة الوعورة وإنما لأنها مشكلة محرجة .. ومحرجة لزوجي بالذات وهو إنسان مهذب وعلى خلق ويشهد له الجميع بالاحترام والتقدير.

ولأنه كذلك يا سيدي فلقد تحملت الكثير لكن احتمالي كاد ينفد فقررت أن أكتب إليك قبل أن اجن وقبل أن يضيع مستقبلي العلمي .. وسأبدأ لك القصة من البداية فأقول لك أنني طبيبة وقد تزوجت زوجي منذ عشر سنوات ووجدت فيه فتى أحلامي وتوءم روحي ورجلي الذي افخر به واحترمه ولقد رزقني الله بعد الزواج بفترة بطفلة جميلة أصبحت زهرة حياتنا وقد تخرجت قبيل الزواج بتفوق وعينت في وظيفة جامعية وحصلت على الماجستير ونحن والحمد لله نعيش حياة مستورة لا هي بالمترفة ولا هي بالصعبة ويظللنا الحب والتفاهم .. ولكن .. وآه من لكن هذه كما قرأت لك مرة في أحد ردودك .. فكل حياة فيها ولكن كما تقول لكن المشكلة هي أن "ولكن" الخاصة بي تبدو بسيطة في نظر البعض وبل تبدو " بطرا" في نظر البعض الآخر أما في نظري أنا .. فهي تكاد تهدد مستقبلي العلمي وتؤثر على سعادتي .

 

فمشكلتي يا سيدي أن زوجي من أسرة لا تقيم في القاهرة وإنما في الأقاليم وقد أمضى طفولته وصباه في بيت واسع عدد الأفراد فيه يقاس أحيانا بالعشرات وأنا قاهرية تربيت في الشقق ذات الحجرات المحدودة والتي يقتصر مفهوم الأسرة فيها على الحدود المعروفة أما هو فالأسرة عنده تشمل من الأب والأخوة والشقيقات إلى أبناء العمومة والخئولة وبنات الخالات وأبناء الخال وزوجاتهم وأزواجهن وانسباهم وأقارب الأنساب وأقارب الأقارب فالجميع من الأسرة .. وليس في هذا من بأس لكن الكارثة هي أن كل هذه القبيلة تعتبره "سفير" الأسرة في العاصمة. لهذا فكل من كانت له مصلحة فيها ليس عليه سوى أن يشد الرحال إلى القاهرة حيث يجد بيتي في استقباله فيقيم فيه إلى أن تنتهي المصلحة ويعود مصحوبا بالسلامة إلى البلدة وليس في هذا أيضا من بأس فالناس لبعضها لكني فوجئت بعد أيام قليلة من الزواج أن حياتي في بيتي لا تعرف الخصوصية وأن علي أن أغير من ملابسي التي اعتدت أن أرتديها في البيت في بيت أسرتي بملابس أخرى تتناسب مع وجود غرباء بصفة مستمرة في البيت لذلك فأنا أرتدي دائما ملابس الخروج في بيتي ولا أغادر غرفة نومي في الصباح الباكر إلا بعد ارتدائها كما أن علي أن أكون باستمرار في حالة معنوية عالية تسمح لي بالترحيب بالضيوف وبأن أقوم بواجب الضيافة لهم بل لقد فوجئت بعد أيام قليلة من زواجي ذات صباح بأننا قد استيقظنا من النوم فوجدنا "ضيفا" يجلس في الصالون ينتظر استيقاظنا ولم يكن في الشقة غيري وغير زوجي فصعقت ، ثم تبين لي بعد ذلك أنه يحمل مفتاحا للشقة من أيام عزوبة زوجي وأنه قرر السفر للقاهرة فبدأ الرحلة في "النجمة" فوصل إلى المسكن قبل الثامنة صباحا فآثر ألا يزعجنا وفتح الباب بالمفتاح ودخل إلى الصالون ينتظر صحونا لكي نرحب به.

 

 طبعا ثرت لهذا الوضع ووضعت حدا له وقمت بتغيير الكالون لكني لم استطع تغيير نظام حياتنا فبيتنا يا سيدي مفتوح باستمرار وحجرة الصالون مشغولة بصفة شبه دائمة بالضيوف وزوارنا كثيرون من البلدة هذا قادم للدراسة وهذا قادم للتجنيد وهذا قادم للعمل والزيارة في بيتنا لا تقاس بالساعات وإنما بالأيام وأحيانا بالأسابيع وزوارنا قوم طيبون لكنهم لا يعترفون بأن للإنسان أوقاتا يحب أن يخلو فيها لنفسه أو لأسرته الصغيرة.

وفي بداية حياتي الزوجية كنت استمد من شبابي وحيوتي وفراغي القدرة على أداء هذه الواجبات ، لكن الكارثة أني أصبحت موزعة بين العمل في الجامعة ورعاية طفلتي وبين واجبات الضيافة للزوار الدائمين وأقصى ما يتعبني أن أعود مرهقة من عملي الجامعي الذي تعاملت خلاله مع العشرات بل والمئات وكلي أمل في أن استلقى على سريري ساعة ثم أخلو إلى زوجي وطفلتي ساعات فأجد الصالون "يشغي" بالضيوف كأنه مدرج الكلية.




 ******

 

اعترف بأني ضحكت حين قرأت هذه الرسالة ونادرا ما أفعل ذلك وأنا اقرأ رسائل بريد الجمعة التي تنضح غالبا بالمرارة والأحزان ولقد ضحكت لأني اعرف أن هذه الرسالة سوف تثير مشاعر كثيرين ممن ينتمون لأصول غير قاهرية ويعتبرهم أقاربهم شاءوا أم أبوا "سفراءهم" في بلاط مدينة القاهرة فيشدون إليهم الرحال كلما جد لهم مطلب من العاصمة التي يتركز فيها كل شيء بكل أسف.

ورغم ذلك فإنك تثيرين يا سيدتي قضية هامة هي قضية احترام حياة الإنسان الخاصة .. وقضية الوقت الذي لا قيمة له عند الكثيرين وقضية المجاملة فيما لا يفيد على حساب المصلحة الشخصية .. والحكمة كما يقولون يا سيدتي هي ضمان السعادة .. والاعتدال في كل شيء هو معيارها والمجاملة فيما يضر بمصالح الإنسان الحقيقية ولا يفيد الآخرين بشيء هي بالتأكيد شطط لا معنى له.

 

فالمغالاة مثلا في فتح أبواب حياة الإنسان الخاصة لاستقبال الآخرين في كل وقت وفي أي لحظة ولأي مدة يراها هؤلاء الآخرون خطأ يتساوى تماما مع خطأ انكفاء الإنسان على نفسه وأسرته الصغيرة وإغلاق أبواب حياته في وجه الآخرين وتنصله من أداء الواجبات والالتزامات العائلية والاجتماعية تجاههم فكلاهما موقف خاطيء تماما من الحياة .. ففي الأول عمومية قد تتفق مع طبيعة الفنادق أكثر منها مع طبيعة المسكن الخاص وفيه تشتت وضياع للوقت والجهد وافتقاد للخصوصية التي لا يستغني عنها الإنسان .. وفي الثاني فردية وأنانية وتقوقع لا يتفق مع الحياة الطبيعية التي لا يستطيع الإنسان أن يحيا فيها وحده .. ولا أن يقيس فيها كل الأمور بمقاييس مصالحة الشخصية وحدها .. والحكمة مرة أخرى ضمان السعادة يا سيدتي .

 

إن زوجك فيما فهمت من رسالتك رجل شهم وكريم وإحساسه العائلي مرتفع كما أن إحساسه بالواجب أيضا كبير وهذه كلها فضائل تحسب له لكن هذا الإحساس العائلي لابد أن يشملك أنت أيضا باعتبارك من أهم واجباته العائلية .. ولابد أن يفرض عليه أن يهييء لك التفرغ الكامل لأداء امتحاناتك التي يتوقف عليها مستقبلك العلمي ويتوقف عليها احتفاظك بوظيفتك الجامعية كما لابد أن يفرض عليه أن يحرص على أن تكون لكما خصوصيتكما الضرورية لاستمرار الحياة .

فلكل إنسان أوقات يحب أن يخلو فيها لنفسه وليس كل إنسان قادرا على أن يحيا دائما في كل الأوقات تحت أنظار الآخرين فيأكل ويعمل ويدرس ويستريح ويلهو ويقرأ ويسمر بل ويصمت ، تحت أنظارهم ولابد من أوقات يخلو فيها الإنسان لنفسه ولمن لا يحتاج إلى ارتداء ملابس الخروج أمامهم .. وإلا فما الفارق إذن بين مسكن الإنسان الخاص .. وبين ميدان رمسيس ؟

 

 إن الانجليز يقولون "منزلي حصني" أي أنه المكان الشديد الخصوصية الذي نلجأ إليه ونحتمي فيه ولا يجوز اقتحامه علينا إلا بإذن القضاء .. فكيف نسمح للآخرين بإهدار هذا الحق الدستوري في أية لحظة من الليل أو النهار ؟ لذلك فإني أكاد ألومك يا سيدتي في أنك لم تضعي أمامه الأمر بهذا الوضوح وفي أنك انغمست في المجاملة على حساب مصلحتك العلمية إلى الحد الذي أصبح يهدد مستقبلك وعملك.

 فتخلصي من هذا الحرج وكرسي حياتك للحصول على الدكتوراه في الفترة القصيرة المتاحة لك وليس من حق أحد أن يلومك في ذلك كما أنه ليس من حق أي ضيف عاقل أن يغضب لانصرافك عن مسامرته إلى إنقاذ وظيفتك والسنوات الطويلة التي أنفقتها في دراسة الطب والتفوق فيها .. مع تمنياتي لك بالنجاح .

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات