الحرب الباردة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 


الحرب الباردة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

الحياة قصيرة ولا تحتمل أن نبددها في الحروب الباردة أو الساخنة ومن الحكمة أن نقتنص منها حالات الصفاء وأن نعيشها قبل أن تدهمنا الهموم الحقيقية فنبكي على ما بكينا منه من قبل .

عبد الوهاب مطاوع


وتلقيت في بريدي أيضا هذه الرسالة :

أرسل إليك هذه الرسالة التي قد تكون جديدة أو مختلفة بالنسبة للمشاكل التي يرسلها قراء الأهرام إليك .. إنها مشكلة تتعلق بالعناد .. العناد بين زوجين استطيع أن أقول أنهما متحابان متفاهمان متلائمان إلا في موضوع العناد الذي ينغص حياتهما فالزواج قديم مر عليه عشرون سنة وسيستمر بإذن الله رغم كل الظروف .. ولكن كيف يغير الإنسان من طبيعته ؟ هذا هو السؤال : إنني أعترف بأنني عنيد لدرجة ما ولكني اعتقد أن زوجتي أكثر عندا مني .. ولقد اتخذت طريقة لمواجهة هذا العناد بمقابلته بعناد مماثل اتخذ شكل المقاطعة وبدأت المقاطعة بيوم ثم اثنين ثم أسبوع ثم أسبوعين وارى الآن أنها في طريقها للزيادة وأتوقع أن تصل "في الخلاف الواحد" إلى شهر وربما أكثر وكأننا نريد أن نصل إلى أرقام قياسية في المقاطعة والخصام أو أن كلا منا يريد أن يمتحن قوة العناد عند الآخر ومدى احتماله وصموده في الوقت الذي لا يتطلب إنهاء سبب الخلاف بالنسبة للآخرين إلا معاقبة دقائق ولكن ماذا أقول يا سيدي إنه العناد والعياذ بالله .

 

 ومن الغريب أن كلا منا لو اعتذر للآخر مجرد اعتذار بسيط بكلمة أو كلمتين لانتهى كل شيء بالصلح وكأن شيئا لم يحدث فلو قالت لي مثلا معلش حقك علي أو أنا غلطانة أو سامحني أو مش حاقول كده تانی أو ما شابه ذلك من كلمات التطييب .. "وهذا الكلام ينطبق على أيضا" لانتهى كل شيء في ثوان معدودة .


 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

 إني لا أجد ما أقوله لكما إلا ما قاله شاعر إغريقي كفيف منذ أكثر من ألفي سنة من أن "العناد دليل الغباء" وعفوا لهذا التعبير فاني لست مبتكره .. وإنما صاغه سوفوكليس على لسان احد أبطاله في روايته انتيجون .. وناقل الكفر يا صدیقی ليس بكافر لكنكما لو فكرتما في معنى هذه العبارة لالتمستما له كل العذر فيها .. لأن العناد في حقيقة الأمر ثمرة طبيعية لتصلب الرأي وعجز الإنسان عن أن يرى وجه الخطأ في موقفه أو وجه الحق في موقف الطرف الآخر في حين أن مرونة التفكير وسعة الأفق تتيحان للإنسان أن يعرف بسهولة أين الخطأ وأين الصواب في موقفه وفي مواقف الآخرين فإذا اكتشف خطأ موقفه فإن من واجب الأمانة مع شريك عمره ألا يتمسك به .. بل وأن يعتذر عنه .. والاعتراف بالخطأ دائما فضيلة وأمانة .. والاعتذار عنه شجاعة أدبية وحضارة في السلوك والتصرف .. ومن حق كل إنسان أن يخطئ لأن الحياة سلسلة متصلة من التجربة والخطأ لكن ليس من حقه أبدا أن يتمسك بخطئه استكبارا وعنادا وأن يرفض الاعتذار عنه أو أن يتصور دائما أنه وحده على حق وأن الآخرين على خطأ .. وأتذكر دائما كلما تعاملت مع إنسان "متأكد" جدا من أن رأيه أو موقفه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من خلفه أو أمامه - الإمام أبا حنيفة الذي قيل له يوما هذا الذي تفتي به أهو الحق الذي لا شك فيه ؟ فتفكر قليلا ثم قال: والله لا ادري .. فلعله الباطل الذي لا شك فيه .

 

ولذلك أيضا قال الفيلسوف برتراند راسل بعد ذلك بمئات السنين الأغبياء "متأكدون" جدا .. والأذكياء يملؤهم الشك ، وقال حكماء العرب من قبله : الشك من حسن الفطن ، لأن الشك في سلامة موقف الإنسان يتيح له أن يرى وجه الحق في موقف غيره .. في حين أن التأكد التام من صحة موقفه يحجب عنه فرصة رؤية احتمالات الحقيقة في مواقف وآراء الآخرين.

ومن حسن الفطن ألا يتصور كل طرف منكما أن موقفه هو الحق الذي لا شك فيه .. فلعله أيضا الباطل الذي لا شك فيه ، ومن حسن الفطن ألا يتصور أحدكما أن مبادرته بالاعتذار للآخر هي "عار" تنقص من شأنه لأن الاعتذار عن الخطأ كما قلت من سلوك المتحضرين  .. وخيركما هو أسرعكما بالرجوع عن الخطأ والاعتذار عنه لصاحبه لأن الكلمة الطيبة تأسر القلوب وتنهي الخصام وتعمق الروابط والمشاعر .. والحياة قصيرة يا سيدي ولا تحتمل أن نبددها في الحروب الباردة أو الساخنة ومن الحكمة أن نقتنص منها حالات الصفاء وأن نعيشها قبل أن تدهمنا الهموم الحقيقية فنبكي على ما بكينا منه من قبل .

 

والحياة الزوجية بل والحياة بصفة عامة ملاحة صعبة في بحر مليء بالجنادل والصخور وتحتاج إلى الحكمة والمرونة والمهارة لكيلا تجنح سفينتنا فيه وتتحطم  .. لا إلى العناد وتصلب الرأي وتمسك كل طرف بموقفه كأنه نور اليقين .. كما تحتاج أيضا إلى أن نبقي دائما على شعرة معاوية صحيحة سليمة فإذا شدها طرف أرخاها الآخر لكيلا تنقطع .. وليس أفضل من استعداد الإنسان لتفهم موقف الآخر والتماس العذر له واستعداده للاعتذار عن الخطأ من وسيلة للمحافظة على هذه الشعرة الضرورية لاستمرار الحياة الزوجية ونجاحها .

 مع خالص تمنياتي لكما بالتوفيق والسعادة وإنهاء الحرب الباردة بينكما إلى الأبد بإذن الله.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات