العربة الطائشة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
تلقيت في بريدي
هذا الأسبوع هذه الرسالة :
اكتب إليك رسالتي هذه لتقرأها وتحاول نشرها
ليستفيد الآخرون من تجربتي المؤلمة كما تقول دائما في تعليقاتك على رسائل القراء
ومشكلتي قد تكون فردية لكنها لا تخلو أيضا من نفع للآخرين لذلك سأرويها لك وأريد أن
اقرأ تعليقك عليها.
أنا يا سيدي
زوجة لطبيب يعمل بأحد المستشفيات وليس له عيادة خاصة ولي 5 أبناء في مراحل التعليم
المختلفة .. نحيا حياة متوسطة ليست بالرغدة كما يحيا من تتدفق عليهم النقود
كالشلالات وليست شديدة الجفاف كما يعيش الملايين صابرين، لكنها حياة من يحتاجون
للتخطيط لكل قرش ينفقونه قبل موعد إنفاقه بوقت كاف.
فقبل دخول المدارس نحتاج للاستعداد لتوفير
متطلباتها بالادخار من مرتب زوجي أو من إيراده الخارجي الذي قد تسمح به الظروف أحيانا
بغير انتظام، وعند شراء ملابس الصيف نفعل نفس الشيء وعند حلول موعد دفع اشتراك
النادي وهكذا.
ورغم ذلك فلقد
كانت حياتنا تمضي عادية .. تشهد أياما من
الرخاء في بعض المواسم .. وأياما من الجفاف في أواخر الشهور وبعض الفترات التي قطع
فيها الدخل الخارجي غير المنتظم
.. ثم خطر لزوجي أن يعمل على زيادة دخله وكان
الطبيعي لطبيب إذا فكر في زيادة دخله أن يفكر في افتتاح عيادة أو المشاركة في
مستشفى صغير إذا كان يملك الإمكانات المادية، أو حتى المشاركة في عيادة طبيب آخر إذا
استطاع ، لكنه بدلا من كل ذلك قام بدفع جميع ما نملكه من مدخرات ومن حصيلة بيع بعض
الأشياء واشترى به سيارة نقل قديمة ليقوم بإصلاحها بنفسه وتجديدها ليؤجرها بعد ذلك
لمن يريد أو يديرها لحسابه مع سائق .. مؤكدا في أن سيارات النقل تكسب ذهبا ، وأنها
سوف تقدم للأسرة دخلا كبيرا مضمونا بلا تعب.
وهكذا دخلت
حياتنا عربة نقل قديمة متهالكة جاء بها إلى الجراج القريب وأجزاؤها تهتز وتتراقص كأنها
على وشك الوقوع منها واستقرت السيارة في الجراج القريب وبدأ عذاب أسرة بأكملها منذ
هذا اليوم .. فزوجي الطبيب يعود من عمله في الثانية بعد الظهر فيغير ملابسه وينزل
مسرعا إلى الجراج ويبدأ في غسيل السيارة وإزالة الدهان القديم وتنظيفها الخ .. ثم
يعود إلي آخر الليل محطما مجهدا وقد اتسخت يداه ووجهه وملابسه لينام .
ولقد أهمل
الطبيب الناجح عمله حتى أصبح يترك دوره في السهر لزميل آخر ليكون بجوار ميكانيكي
يعمل في إصلاح السيارة أو منجد يقوم بتنجيدها أو كهربائي يصلح دورتها الكهربائية .
إنني أرجو ألا
تتسرع في اتهامي بعدم الصبر أو بأني سارعت بالشكوى من زوجي بعد أسابيع من الحال
وكان حريا بي أن أصبر عليه حتى ينتهي من تجديد السيارة ويبدأ استغلالها لصالح أسرتي.
أرجوك ألا تسيء بي الظن يا سيدي فإني زوجة مخلصة وأعلم أن من واجبي أن أقف بجوار زوجي .. فانا لم أكتب إليك بعد مرور أسبوع على وصول العربة الملعونة .. ولا بعد مرور شهر .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
لا يا سيدتي لم تتسرعي بالشكوى، كما تظنين بل تأخرت كثيرا عن موعدها المناسب .. وكان هذا الموعد في تقديري هو يوم بدأ زوجك يمد يده للاقتراض من الآخرين للإنفاق على مشروعه العجيب هذا . إنني اعترض بالطبع على أن يفكر طبيب في زيادة دخله فتكون الوسيلة هي شراء سيارة نقل متهالكة تبتلع كل ما يملكه .. وتجور على ما تحتاجه أسرته من الضروريات، ولو كانت العربة جديدة لاعترضت أيضا .. لأن المنطقي أن يعمل كل إنسان في مجاله وفيما تتوافر له به الخبرة والدراية، لكن زوجك ضحية فيما أظن لقيم مجتمعنا السائدة الآن والتي تعلي من قيمة المال وتجعله القيمة الأولى في الحياة .. وهو ضحية لسباق الماراثون الكبير المقام الآن في مجتمعنا والذي يلهث فيه الجميع جريا وراء الثروة من أي طريق .. وبشرط أن تكون بأقل قدر من العمل النافع والمجهود .. وفي أقصر وقت ممكن .. فالجميع يريدون أن يكونوا أثرياء كغيرهم .. ويريدون أن ينفقوا ببذخ كما ينفق الآخرون بسفه .. لهذا فهم ينطلقون جريا وراء الثراء وينجرف البعض وسط هذه الحمى إلى مزالق خطرة تهدد كيانهم وتعرضهم للضياع كما حدث مع زوجك بكل أسف.
إنه هدف مشروع
أن يسعى وراء الدخل الإضافي لكن الطريق إليه خاطئ بالتأكيد.
فلماذا يلجا الطبيب إلى العمل بتجارة النقل وهو ليس من أربابها وكل إنسان میسر لما خلق له .. اما احتراف التجارة لمن لا يعرف أسرارها فإنها مغامرة دافعها الرغبة في الثراء السريع .. سيقول لي بعض الأطباء تعليقا على هذه القصة أن الطب لم يعد مجالا للثروة وتلبية المطالب الضرورية لمعظم الأطباء في بلادنا وأنه عدا قلة من النجوم في عالم الطب فالجميع يندرجون تحت قائمة المكافحين من محدودي الدخل .. وهذا صحيح لكن أيكون الحل هو التجارة على حساب المهنة الأصلية وعلى حساب العمل الأساسي كما فعل هذا الطبيب ؟
إنها قضية كبرى .. ليس هذا مجالها .. لذلك فإني سأقول
لك رأيي باختصار يا سيدتي.
تخلصوا فورا من هذه العربة الطائشة .. وسددوا
ديونكم للآخرين .. وقولي لزوجك أنه إذا كان ما تحتاج إليه الأسرة محرما على المسجد
.. فالأولى أن يكون محرما على هذه السيارة اللعينة أو غيرها من مشروعاته العظيمة
وليرفع يده عن نفقات الأسرة وليدبر أمره كما يشاء ، ولو أنصف لعاد إلى عمله الذي
يؤجر عليه ولأخلص في
أداء
واجبه وبحث عن عمل إضافي في مجاله الطبيعي، ولعرف أنه لن يصل إلى الثراء إلا حين
يأذن الله له بذلك مهما فعل .. ولو خاض البحار .. واعتلى الجبال وطار فوق السحاب ..
فليهدا قليلا وليعد حساباته وليواصل البحث عن عمل آخر في مجاله فطريقه إلى الثراء
لن يمر فيما اعتقد بهذه العربة المشئومة .
إذ لماذا يلجأ الطبيب إلى العمل في تجارة النقل
وعلى حساب عمله الأساسي وتخصصه الأصلي إلا لو كان قانون الربح هو السائد وحده لدى
الكثيرين.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر