مجرد "هواية" .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
تلقيت في
بريدي هذا الأسبوع هذه الرسالة :
أنا يا سیدي
شاب تجاوزت الثلاثين من عمري وأعمل مدرسا في مدرسة ابتدائية منذ حوالي 8 سنوات وأقيم
في بلدة صغيرة بإحدى المحافظات .. وأنا شاب متدين أؤدي الفرائض وأخلاقي طيبة
بشهادة أهلي وزملائي وتقاريري في كل سنوات العمل امتياز والحمد لله ، وأسرتي كلها
موظفون متعلمون ووالدي ناظر بالمعاش وقد خطبت فتاة من أسرة طيبة وسيتم الزفاف
قريبا بإذن الله بعد أن تحصل على شهادتها في الصيف القادم . وأرجو أن يوفقني الله
في إتمام هذا الزواج فقد فشلت خطوبتي قبل ذلك أكثر من مرة لأسباب لا دخل لى فيها
.. كأن يطلب مني الانتظار حتى تتم الخطيبة تعليمها لفترة طويلة .. أو كأن يظهر شخص
آخر بمهر أكبر وليست هذه هي المشكلة التي اكتب بشأنها .. وإنما أكتب لك عن مشكلة
أخرى هي بالفعل مشكلة حياتي
الحقيقية والتي لم أتحدث مع أحد من قبل عنها وهى يا سيدي أنني أحب الذبح جدا وأحب
لون الدم جدا وهوايتي الوحيدة والسرية هي الذبح .. وسأروى لك بعض ما أعانيه من هذه
الهواية .
فوالدتي مثلا
تحب تربية الكتاكيت فأقوم أنا ليلا من نومي وأتسلل خفية إلى حظيرة الفراخ وأقوم
بذبح كل الكتاكيت الموجودة فيها بلا رحمة وتدخل أمي الحظيرة في صباح اليوم الثاني
فتجد مذبحة فيها والدم يغطي أرضها .. فتكاد يغمى عليها من الفزع ومن الحزن .
شيء آخر في بيتنا الريفي برج صغير للحمام أتسلل
إليه في غفلة من أهلي وأتخير الحمام الصغير واذبحه كله واحدة وراء الأخرى بسعادة
عجيبة وادهن يدي بدمها وتفاجأ أمي بالكارثة في اليوم الثاني وتتهم الفئران
المظلومة بما فعلت .. شيء ثالث .. اصطاد القطط الصغيرة لذبحها بنفس الطريقة .. واحبس العصافير
في غرفة الحوش وأمارس معها نفس الهواية .. وإذا تصادف وكنت عائدا من المدرسة ووجدت
جزارا يذبح ذبيحة مثلا أتسمر أمامه واقف اتفرج معجبا به کأني أقول له في سري سلمت
يداك .. ليتني كنت مكانك .. وفي المواسم الدينية حيث يكثر الذبح أتفرغ تماما
للفرجة على المذابح ، التي تحدث في بيتنا وفي بيوت أسرتنا بالبلدة بل وفي بيوت
الأصدقاء والمعارف ولله دره عيد الأضحى .. ففيه تسيل الدماء انهارا وتتلاحق أنفاسي
وأنا أهرول من بيت إلى بيت لكي لا تفوتني فرصة حضور ذبيحة ومشاهدة الدماء تسيل
منها بغزارة والجزارون الأبطال ينهالون عليها بسكاكينهم التي تلمع كالبرق ،
والخناجر الصغيرة تتدلى من الأحزمة في جنوبهم وتتمايل معهم كلما انحنوا فوق
الذبيحة كما تتمايل أغصان الشجر كلما هب النسيم العليل عليها مردداً لنفسي مع كل طعنة الله ..
الله .. مع هذه السعادة كلها لولا خوفي من نظرات الحاضرين لي .. ولولا ما أحس به
من حرج تجاههم إذا تركت لنفسي العنان.
والمشكلة أن هذه المصيبة عندي منذ عشر سنوات .. وأن من هواياتي العجيبة أيضا أن أضع إصبعي في فم الأطفال عندي داخل الفصل ، وإنني آكل أظافري ولا اتركها إلا حين ينزف منها الدم وافعل ذلك مع أظافر رجلي أيضا.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
يا سيدي أنا
لا أخاف منك لكني أخاف عليك من نفسك وأخاف أكثر على هؤلاء الأبرياء الصغار الذين
وضعتهم الظروف تحت رحمة هذه النزعة الدموية المخيفة التي تسيطر عليك رغما عنك .
إنك تعاني من أعراض نفسية عصبية .. سادية مازوكية مركبة لا تحتاج إلى خبرة متخصص لاكتشافها .. فأنت تتلذذ بإيلام الغير ويستثير منظر الدم داخلك نشوة جنونية وهذا من أعراض السادية لكنك تتلذذ أيضا بإيلام نفسك وتضع أصابعك في أفواه التلاميذ ليعضوك وتقرض أظافر يديك وقدميك حتى ينبثق منها الدم .. وتسعد بذلك وهذا من أعراض المازوكية لكن الكارثة هي انك تتخير ضحاياك لممارسة هواية الذبح هذه من الصغار وإنما .. صغار الكتاكيت .. صغار الحمام وصغار القطط وأخشى ما أخشاه أن تمتد هذه الهواية إن لم تبادر بعلاج نفسك إلى صغار التلاميذ أيضا وليس ذلك ببعيد ولا مستغرب في مثل حالتك .. بل لعلها أحد مضاعفاتها البعيدة ولقد بح صوتنا من المطالبة باعتبار الصلاحية النفسية والعصبية أحد شروط التعيين في الوظائف الخطيرة ومن أولها وظيفة معلم النشء وبح صوتنا من ضرورة التفكير في طريقة لتنفيذ الاختبارات النفسية المعروفة في الدول المتقدمة على المتقدمين لشغل الوظائف التي يتعامل أصحابها مع النشء أو على الأقل عدم ترك من يعانون من أمراض عصبية واضحة بلا علاج وسط التلاميذ الصغار .
ولست أظن أن حالتك هذه من الممكن أن تخفى على أية إدارة سليمة للمدرسة وأنت تطارد الجزارين الأبطال من ذبح إلى ذبح وأصابعك متورمة ومجروحة دائما .. لكنها آفة الاستهانة ببوادر الخطر إلى أن يستفحل كعادتنا دائما.
وهذا حديث طويل .. وأخشى لو ألححت عليه أن يجيبني البعض ساخرا أنه يكفى أن نحلم بحماية تلاميذ المدارس الحكومية من سوء التغذية والأمراض الوبائية .. فلا تضف إلى أحلامنا مثل هذا الترف النفسي وهو ليس ترفا في واقع الأمر وحالتك خير دليل والرسائل التي أتلقاها حول نفس الموضوع أيضا خير دليل .. لكن هذه قصة أخرى فتفضل بزيارتي وسوف ارتب لك برنامجا علاجيا شاملا بإذن الله مع أستاذ صديق للطب النفسي والعصبي .. ولو كنا في مجتمع آخر لطالبتك بالحصول على إجازة من التدريس والابتعاد عن الصغار تماما إلى أن يتحقق لك الشفاء بإذن الله .. لكني اعلم أنا دون اقتناع الوزارة بضرورة ذلك ذبح طفل على الأقل في فناء المدرسة .. لذلك فلن أطالبك بمثل هذا الترف لأنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .. والله المستعان على ما يصفون !
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر