سؤال محرج .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
حين أقلب في ملف رسائل بريد الجمعة أحس أحيانا أنني أمام شريط تتتابع الصور فيه فيبعث بعضها الأسى ويبعث بعضها التأمل .. وقد يبعث بعضها الآخر الابتسام، لكنها كلها تتجمع وتتكامل لترسم في النهاية صورة لبعض ملامح هذا الجيل وبعض معاناته
وبعض مشاكله.
ومن الرسائل التي أثارت لدي بعض
هذه الخواطر هذه الرسالة:
مشكلتي هي مشكلة الألوف من الشباب لكني اكتب إليك لأني مازلت أمل في حلها من عند الله وربما عن طريقك.
إني يا سيدي فتاة متدينة ومحجبة وملتزمة وجميلة
هذا النوع من الجمال الذي يطلقون عليه "الجمال الرباني" بلا مكياج ولا
مساحيق والحمد لله على ذلك ، وقد وفقني الله سبحانه وتعالى إلى شاب يعد مثالا للخلق
والالتزام والأدب فخطبت له وبادلته حبا بحب وإعجابا بإعجاب وخطيبي هذا يعمل مهندسا
مدنيا بإحدى شركات القطاع العلم ومرتبه بالحوافز ۱۲۰ جنيها، أما
أنا فأعمل موظفة بمرتب شهری قدره مائة جنيه
وقد خطبت
لخطيبي منذ 3 سنوات بالضبط واتفقنا منذ البداية على أن ندخر كل ما نستطيع ادخاره
إلى أن نتمكن من توفير مبلغ معقول يصلح لأن يكون نواة لمقدم شقة صغيرة في أي مكان
تصبح عش أحلامنا على أمل أن يساعده والده المقتدر في الحصول على شقة بالإيجار ،
بأن يدفع له مبلغا من المال يساعدنا على دفع المقدم أو أن يقرضه ما نحتاج إليه
للحصول على شقة .. لكننا فوجئنا يا سيدي
منذ أيام وبعد أن طال صبرنا بوالده سامحه الله ينفض يده نهائيا من المشكلة ويعلنه
أنه لن يقدم له أية مساعدة مالية حتى ولو على سبيل القرض لأن خطيبي هو الذي سيتزوج وليس والده ، على حد
تعبير أبيه ! وقد تعجبت كثيرا من أن يكون في
استطاعة إنسان
أن يسعد ابنه ثم يحجم عن ذلك لأسباب غير مقبولة .. خاصة وأن خطيبي هذا ابن صالح
يتمناه أي أب في الدنيا وأولهم أبي .. فلم يحدث يوما أن عارض والديه أو خالفهما
في شيء أو أغضبهما .. بل أنه رغم أنه بكي حين ابلغني بقرار أبيه .. وبكيت
معه رفض حتى أن يلوم أباه في موقفه هذا قائلا: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ،
وهو بحق يذل نفسه لإرضاء والديه بكل ما يستطيع ، ولم يقترف بحقهما أي خطأ، سوى أن
طلب المساعدة منهما للحصول على شقة وهما قادران عليها حتى أن أباه قد يقرض أحدا من
غير أقاربه عدة آلاف .. لكنه يرفض إقراض ابنه لأنه هو الذي سيتزوج وليس الأب !
ونصل إلى صلب المشكلة وهي يا سيدي أننا مخطوبان منذ
3 سنوات ونعمل ليل نهار لنوفر مبلغ المقدم. وخطيبي يأبى ضميره أن يعمل بأحد المكاتب
الخاصة التي تعطي الكثير مقابل التوقيع فقط على أوراق تتضمن حسابات مليئة بالغش أو
تصميما خاطئا وهو يرفض أن يربح
بمعصية الله وبالإضرار بالناس ، ولذلك فإن كل ما استطاع جمعه بعد 3 سنوات هو ١٣٠٠
جنيه وبهذا المعدل فإن أمامنا ١٠ سنوات على الأقل قبل أن نتمكن من أن نجمع شملنا
ويعلم الله كيف سيكون مبلغ المقدم أو الخلو حينئذ وقد يكون ذلك مقبولا إذا كان هذا
هو حال الجميع ..لكني
أسألك سؤالا "محرجا" أرجو أن تجيب عليه.
كيف نستطيع
الالتزام بإرضاء ربنا كل هذا الوقت وهو الذي لم يلمس يدي مخافة الله حتى يوم وضع
الدبلة في
إصبعي ؟
وكيف بربك
نستطيع أن نحافظ على هذا الالتزام بعدم معصية الخالق وحاجة كل منا للآخر تزيد عن
اليوم الذي سبقه ، والطريق أمامنا طويل ونهايته غير واضحة .. وربما كان مسدودا ونحن نتعلق بخيوط من سراب.
إنني أكتب لك ذلك وأنا أعلم أنك قد تضيق بما
اكتب لكني آخذ هذه المخاطرة على أمل أن يكون بين قرائك أحد الذين رضي الله عنهم
ورضوا عنه فيقبل أن
يؤجر لنا شقة بما معنا من مدخرات على أن يقسط لنا الباقي بقسط سنوي قدره ألف جنيه ..
فهل نجد من يتقي الله ويرغب في مساعدة اثنين من الشباب الملتزم الذي يريد أن يرضي
ربه في زمن انتشر فيه الخطأ، وأصبح سلوكا عاديا .. هل نجد فعلا ذلك أم أننا نحلم
ونغمض عيوننا لنرى في أحلامنا ما كان مفروضا أن يكون من حقوقنا في أرض الواقع ؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
إنني لا اعرف إن
كان من بين قراء بريد الجمعة من يستطيع حل مشكلتك أم لا .. فإن أراد الله لك خيرا
فقد يكون بريد الجمعة هو وسيلته إليه ، لكني أنصحك بعقد قرانك على خطيبك في أقرب
وقت وأن تواصلا رحلة الكفاح من أجل بناء عش الأحلام وأنتما مرتبطان برباط أقوى وأكثر
صمودا للزمن من الخطوبة .. أما سؤالك المحرج فهو قضية في حد ذاته وهي بكل أسف قضية
جيل بأكمله، حطمت معنوياته أزمة المساكن حتى لقد جاء زمان اغبر يعيش فيه جيل من
الشباب المتزوج
زواجا مع إيقاف التنفيذ بسبب معضلة الشقة .. ويحمل بعض أفراده بكل أسف قسيمة الزواج بصفة دائمة في حافظة النقود .. لإبرازها عند الطلب ! أمام أي طلب .. وفي أي ظروف .. فلا داعي للإفاضة أما مجتمعنا فهو يدفع ثمن الأزمة غاليا فيما يشهده أحيانا من بعض مظاهر العنف والانحراف والجرائم الخلقية .. وبالرغم من كل شيء فعلينا ألا نيأس من حل مشاكلنا وألا نفقد إيماننا بالله وبالإنسانية وبالخير حتى وإن توارت أشعة الشمس أحيانا خلف الغيوم ، فلابد أن يكون الغد أفضل من اليوم .. ولابد أن نؤمن بذلك ونعمل من أجله وإلا أصابنا الجنون.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر