وقت الكلام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

 

وقت الكلام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998

وقت الكلام .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998


أنا طبيب حديث التخرج ارتبطت منذ ستة أعـوام بزميلة لي في نفس الكليـة تصغرني بثلاث سنوات وتقيم إلى جـوارنـا في البيت الذي أقيم به وهي فتاة على خلق ومن أسرة طيبة .. وقد ارتبطنا وتزاملنا ست سنوات كنت أراها خلالها في الكليـة.. وفي البيت الذي يجمعنا السكن فيه دون أن يفصح أحـدنا للأخر عن مشاعره، وإنما كنا نتحدث حديث الجيران، وزملاء المهنة الواحدة ويحب كل منا الآخر في صمت إلى أن حان وقت الكلام عقب تخرجنا معا في الكلية هذا العام وصارحتها بمشاعري وصارحتني بمشاعرها ، ووجدت لديها تمسكا كبيرا بي ورفضت من أجلي من تقدموا إليها.

 

 إذن فما هي المشكلة التي تحول بين شابين مثلنا تجمعهما الدراسة الواحدة والمهنة الواحدة والسكن الواحد.

المشكلة يا سيدي في التقاليد التي لا يقرها شرع ولا دين والتي تقضي بأن يتزوج النوبي من نوبية وإلا قاطعه الأهل وأصبح بالنسبة لهم في حكم الميت، فأنا من أبناء النوبة ووالدتي سيدة طيبة شقيت كثيرا من أجلنا بعد وفاة والدنا، وسهرت على راحتي وراحـة إخـوتي وفعلت المستحيل لكي توفر لنا الحياة الكريمة بالرغم من المعاش الضئيل الذي تتقاضاه عن أبي إلى أن تخرجنا جميعا، وتزوجت شقيقاتي من بعض أقاربنا، ثم جاء دوري لكي أفاتحها وأنا مشفق على نفسي في أمر زواجي من زميلتي التي تعرفها جيدا، فكان الرفض القاطع حتى لمبدأ النقاش في الأمر!

 

وتركت الموضوع لفترة تخيلت خلالها أن الأمور قد هدأت ثم حدثت أمي مرة أخرى فيه فرفضت وازدادت إصرارا على الرفض، إذ لابد أن تكون العروس نوبية .. وطلبت من أعمامي

وأخوالي أن يحدثوا أمي في الأمر واستجابوا لرغبتي رغم عدم اقتناعهم بجدوى الزواج من غير النوبية، فلم تتنازل أمي عن رفضها قيد أنملة.

ولست أستطيع أن اعصي أمي لأنها سيدة طيبة للغاية وكافحت طويلا من أجلنا.. ولست أستطيع على الناحية الأخرى أن أخيب أمل فتاتي وأملي بعد كل هذه السنوات من الصبر والانتظار؟ فماذا افعل یا سیدی؟ هل افعل ما أحله الله لي وأتزوج زميلتي واترك للأيام أن تداوي الجراح فيما بعد! علما بأن من تجرأ من أهل النوبة وتزوج من غير النوبيات انقطعت صلتهم بعـالم النوبيين وعاداتهم وتقاليدهم.

 إنني مستريح للزواج من زميلتي هذه لأنه أمر في طاعة الله ورسوله لكني مشفق على أمي وعلى نفسي من غضبها فبماذا تشير علي أن أفعل؟!

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

إذا كنت قد صبرت ست سنوات طوال على حبك لزميلتك وكـتـمـانك لمشاعرك تجـاهـهـا إلى أن جاء وقت الكلام وصارحتها بعواطفك نحوها، فإن والدتك الطيبة المكافحة تستحق هي الأخرى منك أن تصبر عليها بضعة شهور أخرى إلى أن تظفر منها لا بموافقتها السعيدة على هذا الزواج، وإنما علـى عـدم اعتراضها عليه في أقصى التقديرات .. وبالتالي تستطيع أن تتزوج من فتاتك بغير أن تنقطع الخيوط بينك وبين والدتك، أو تعصي إرادتها وتشقي أيامها في هذه المرحلة من عـمـرهـا بهـذا العصيان.

 

إنني أدرك جيدا عمق التقاليد النوبية التي تنفر من زواج النوبية من غير النوبي، ومن زواج النوبي مـن غـيـر نوبية، لكن كل شيء قابل للتـغـيـر إلا قانون التغير، كما قال الفيلسوف الإغريقي القديم، ولابد أن يأتي يوم قريب تلين فيه والدتك بعض الشيء وتقبل بالنقاش في هذا الأمر، ثم يجيء يوم آخر لا تجد فيه بقلب الأم الرءوم مفرا من ألا تقف في طريق سعادتك كما اخترتها لنفسك حـتـى ولو لم تكن راضية في أعماقها عن هذا الاختيار.. فواصل الكفاح معها بلا ملل ولا يأس، وإذا قبلت زميلتك بالانتظار بضعة شهور أخرى واحسبها ستقبل بذلك وهي ذات تجربة مماثلة لتجربتك في طول الصبر والانتظار، فإن شقيقاتك يستطعن أن يقمن بدور مـؤثر في التخفيف عن معارضة والدتك لهذا الزواج، وحبذا لو استعنت أيضا بأزواجهن وأعمامك وأخوالك مرة أخرى لكي توسع الدائرة العائلية التي تقبل بزواجك من زميلتك وتلح على والدتك بألا تعترض طريق سعادتك الشخصية.

 

والأم أم في النهاية يا صديقي، ولا يمكن أن تسـعـد أم بتـعـاسـة ابنها أو بحرمانه من السعادة التي أحلها له الله ورسوله ولم يأت في سبيل الفوز بها أمرا إدا.

 وأما التقاليد الراسخة فلعلهـا تستثنيك هذه المرة من أحكامها القاطعة، رعاية لحقك على والدتك وشقيقاتك.. وتحية لحبك العفيف الصامت لزميلتك كل هذه السنوات الطوال.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1998

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات