نشيد الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996
لا أدري كيف أبدأ رسالتي إليك فأنا حائر ومتألم ومكتئب يا سيدي .. فأنا شاب عزب في الثلاثين من عمري أعمل في الغربة منذ ثلاث سنوات، وقد اكتشفت مؤخرا أنني مصاب بالكبد الوبائي والفيروس اللعين سي، وكانت صدمتي في نفسي كبيرة رغم إيماني العميق بالله وبالقضاء والقدر خيره وشره، لكني صدمت رغم ذلك لأنني قد أعطيت من نفسي الكثير.. وكنت أترقب السعادة المؤجلة التي تتحدث عنها كثيرا في ردودك.. وانتظر جوائز الصابرين التي تبشر بها المهمومين، فإذا بهذه الصاعقة تنزل فوق رأسي.
ولقد أعطيت الكثير لأهلي وإخوتي وأصدقائي حتى أن مدخراتي خلال ٣ سنوات من العمل الشاق لا تتجاوز الآن ستة آلاف جنيه ولست نادما على عطائي لأحد، وأتمنى لو استطعت أن أعطى أكثر وأكثر، كما أنني لست حزينا لمرضي في حد ذاته، فهو إرادة الله . ولا راد لقضائه .. لكنني كنت أنوي إنهاء غربتي خلال وقت قصير والعودة للاستقرار بين أهلي وأحبائي اكتشف حقيقة مرضى المرعب
فإذا بي أجد نفسي مضطرا للاستمرار في الغربة وقتا أطول حتى لا أصبح عالة على أهلي وإخوتي، حين ارجع ويستنفد العلاج مدخراتي كلها خلال وقت قصير.
وقد بدأت بعض أجزاء من جسمي تتورم بالإضافة إلى انتفاخ البطن وعسر الهضم واحمرار البول واصفرار العينين، وأعوذ بالله من المرض وشروره وأحواله، وقاكم الله جميعا إياه وكتب لكم السلامة منه .. ومع ذلك فعزيمتي على مقاومة المرض قوية وحماسي للحياة والناس والواجب لم يضعف ولم يفتر، ومازلت كما كنت منذ بدأت غربتي أعمل لمدة ١٧ ساعة يوميا بلا كلل ولا ملل، ولست أحمل حقدا ولا كراهية لأحد، وأعلم جيدا أن المرض ليس نهاية الحياة، وأن نهاية الحياة ليست هي الموت وأننا لابد لنا أن نتحمل أقدارنا بصبر وإيمان ، وأن نكون على مستوى المسئولية أمام أنفسنا والآخرين، لكنني فقط احتاج يا سيدي إلى التوجيه والإرشاد ليس بهدف الشفاء الذي هو بأمر الله وإنما لتخفيف الآلام فقط والحمد لله على كل شيء .
فهل أجد بين قرائك من أطباء الكبد العظام من هو على استعداد لأن يصف لي العلاج السليم الذي يساعد على إعادة وظائف الكبد إلى حالتها الأولى لأن الأطباء هنا ليسوا على قدر كبير من الخبرة في التعامل مع هذا المرض ، ويعتمدون أساسا على تحليل الأجسام المضادة وتحاليل وظائف الكبد؟.. وهل تنصحني بالبقاء حيث أقيم وأعمل مع الاكتفاء بالعلاج الذي أتلقاه هنا، أم بالعودة لمصر وطلب العلاج السليم ولو استنفد كل مدخراتي القليلة خلال وقت قصير ؟ وأخيرا ألا من حملة قومية ضد هذا المرض اللعين والبلهارسيا التي تسببه، لكيلا يستمر في نهشه لأكباد المصريين.. إنني لا أطالب بهذه الحملة لأجلي فلقد عرفت مصيري، ولكن من أجل شباب مصر الذين يتهددهم هذا الخطر نفسه فهل من اهتمام أكبر وأشمل بهذا المرض اللعين؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
السعادة المؤجلة مازالت في انتظارك يا صديقي حين يأذن الله سبحانه وتعالى لك بها.. ومعها أيضا جوائز الصابرين والمحتسبين ومن يؤمنون بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله.. فإن لم يكن في حياتك من قبل ما يرشحك لها من سماحة نفسك وكريم عطائك لأهلك وإخوتك وأصحابك.. فلقد أضيف إلى كل ذلك إيمانك العميق بربك وتسليمك الحكيم بقضائه وقدره ، وشجاعتك النفسية في مواجهة اختبار المرض اللعين، ولقد صدقت حقا حين قلت إن المرض ليس نهاية الحياة، كما أن نهاية الحياة ليست في الموت ولاشك عندي في أن المرض لن يكون نهاية أحلام وأمال شاب منفتح للحياة مثلك ويستنفر إرادته لمقاومة عناء المرض وآلامه، فالحق أننا لا ننهزم أمام المرض حين يتمكن من أجسامنا، وإنما حين يقهر أرواحنا وإرادتنا وإيماننا بالحياة والبشر والخير والحق وكل المعاني الجميلة في الحياة.
وقد يبرأ الجسم من علته بعد حين، ولا تشفى النفس أو الروح أبدا من هزيمتها وانكسارها أمام المحنة. فتفسد حياتنا ولو برئت الأجسام من عللها، بالنظرة السوداوية للحياة وبرواسب المرارة والشك والبغضاء للآخرين، فإذا كنت عليل الجسد الآن ولفترة لن تطول بإذن الله.. فأنت عفي النفس سليم القلب والروح والحمد لله، ولابد أن تعينك صحتك الروحية هذه على مقاومة عدوان المرض على سعادتك وأحلامك في الحياة، وعلى هزيمته والانتصار عليه بإذن الله.
ومثلك لا يحق له أن يخشى المرض أو ينهزم أمامه فينظر للمستقبل نظرة تشاؤمية تفقده الإحساس ببهجة الحياة، ذلك أنك من هؤلاء الأخيار الذين تحرسهم العناية الإلهية وتعينهم على اجتياز المحن ما اعتصموا دائما بإيمانهم بربهم.
وهؤلاء هم الذين يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم"
فلا تخف يا صديقي ولا تحزن .. وابعث إلي بصور من تقاريرك الطبية وآخر تحاليلك الحديثة لأعرضها على بعض أصدقائي الفضلاء من أساتذة الكبد العظام في مصر، ثم انتظر البشرى والأمل بعد ذلك بإذن الله .. واستمر في عملك وإقبالك على الحياة مع مراعاة عدم إجهاد جسمك بما لا يحتمله من عناء حيث لا مبرر أبدا لاعتزالك العمل والعودة لبلدك للتفرغ لطلب العلاج، فأنت تستطيع أن تحصل عليه في مقر عملك وأن تتابع حالتك مع أحد أساتذة الكبد بمصر خلال إجازتك السنوية، كما أن دورك في الحياة لم ينته بعد لكي يقعد بك العزم عن مواصلة العمل والكفاح لبناء حياتك ومستقبلك . وكثيرون هم من يواصلون العمل إلى ما لا نهاية في مثل ظروفك مع الاعتدال فيه والالتزام الدقيق بتعليمات الأطباء أما إذا تعارض ذلك مع الحفاظ على صحتك وهي الهدف الأسمى لكل إنسان، فلا وجه للتساؤل أو الحيرة حينئذ، وعد في هذه الحالة فقط إلى أهلك وبلدك وواصل حياتك فيها كما كنت تعيشها قبل السفر، فحين يكون الخيار بين الصحة وبين كل أعراض الحياة الزائلة فلا مجال للتردد والحيرة لكنك لم تواجه هذا الخيار المحسوم بعد ولن تواجهه أبدأ بإذن الله ولا تتوقف عن الاستماع إلى أنشودة الحياة والمشاركة في ترديدها.
فاستعد تفاؤلك بالحياة
وثقتك في المستقبل.. وترقب سعادتك المؤجلة والمضاعفة في موعدها المقدور لك في اقرب
موعد بإذن الله.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر