نعمة النسيان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997
اكتب إليك يا
سيدي ليس طلبا للمشورة وإنما لكي أقدم النصيحة للآخرين، فأنا سيدة تزوجت
وكنت على جانب كبير من الجمال والأناقة، كما كنت أيضا هادئة الطبع ولا ادخر وسعا لإسعاد
زوجي فكنت سعيدة بحياتي أو هكذا توهمت إلى أن أنجبت الولد والبنت وسعدنا بهما
كثيراً، ثم هلت علينا "هرشة" السنة السابعة من الزواج بالنسبة للرجل وهي
السنة التي يقولون أن الزواج يتعرض عندها لإحدى أزماته الحادة، وقد يتطلع الزوج
فيها بنظره إلى خارج عشه الزوجي.
وبالفعل فقد أثمرت هذه الهرشة
لدى زوجي ثمرتها الفاسدة وفوجئت بخيانته لي بعد سبع سنوات من الزواج فوقع الأمر
على رأسي كالصاعقة وتزلزلت حياتي وواجهت زوجي واعتذر ووعدني بعدم تكرار الخيانة
مرة أخرى في حياتنا، وسامحته وصفحت عنه، غير أن شيئا كان قد انكسر داخلي، فرجعت
بالرغم من ذلك لا ادخر جهدا لإسعاده ورعايته ورعاية أبنائنا وبيتنا كأنما لم يحدث
شئ وتوقعت أن يكون زوجي قد استوعب الدرس وتوقف عن العبث فإذا بالخيانات تتوالى بعد
ذلك ويتكرر الاعتذار عنها إلى ما لا نهاية حتى يئست منه .. واليت على نفسي إذا
علمت بشئ جديد من خياناته ألا أفاتحه فيه حفظا لكرامتي وطلبا لهدوء نفسي وحياتي.
مضت بنا الحياة وأنا لا أدخر
جهدا في خدمته وخدمة أولادي وبيتي وأبدي أمام الأبناء سعيدة وراضية، وغرست فيهم حب
أبيهم واحترامه لكي يشبوا أبناء أسوياء لا يعانون من المشاكل النفسية والخلقية.
وواصلت السفينة رحلتها بنا فكبر الابن والابنة
وتخرجا وتزوجا واستقل كل منهما بحياته عنا.. وأقنعت زوجي بعد جهد كبير بأداء فريضة
الحج عسى أن يتوب الله عليه ويتوقف عما يفعل بحياته، وذهب معي إلى هذه الرحلة
المباركة، فلم يمض شهر واحد على رجوعنا منها حتى عاد
مرة أخرى إلى سيرته السابقة.
ثم لم تمض شهور أخرى بعد ذلك إلا
وكان قد خرج إلى المعاش، ولم يكن قد استعد نفسيا لهذا اليوم، فانفض عنه الجميع ..
وهاجمته الأمراض العضال ولأنني سيدة مؤمنة بالله واليوم الآخر وأخشى حساب ربي يوم
العرض العظيم فقد قمت على خدمته ورعايته وعلاجه وأدويته بدأب وعناية وإخلاص ولسوف
استمر على ذلك إلى ما شاء الله بإذن الله، لكنني یا سپيدي أتذكر في بعض الأحيان ما
ارتكبه من خيانات عديدة وما أبداه من أنانية شخصية وما جرح به کرامتي وأنوثتي من
هذه الخيانات فينتابني الحزن والأسى واعجز عن النظر إلى وجهه، وإن هي إلا لحظات ثم
أتذكر بعدها ربي إن كنت قد نسيت وارجع إلى نفسي
ثانية وأقوم على خدمته بأفضل ما استطيع من جهد ورعاية وإني لأتساءل يا سيدي ترى
ماذا كان يمكن أن يكون مصير زوجي الآن لو كنت ممن لا ينسون الإساءة مثل بعض البشر
؟.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
ينبغي أن نشكر
أقدارنا كثيرا إذا وجدنا في أنفسنا القدرة على نسيان الإساءة إلينا بعد حين، إذ
لولا نعمة النسيان هذه لما احتملنا بعض جوانب الحياة ولعجزنا حتى عن النظر إلى
وجوه الكثيرين.
والحق إن أفضل
ما يفعله الإنسان بنفسه هو أن يتمسك بنعمة نسيان الإساءة هذه، وأن ينميها داخله ليس
فقط لأن ذلك هو الموقف الأخلاقي والديني الأفضل له، وإنما أيضا لأنه الموقف النفسي
الأقرب إلى الصحة والاتزان النفسي.
فالشخصية المتسامحة شخصية تتمتع بحريتها النفسية
وبالقدرة على التعامل الأفضل مع الحياة والأشخاص.. لأنها شخصية لا تبيد طاقتها النفسية
في مكابدة المشاعر السلبية واجترار المرارات، كما أن صاحبها يتسم غالبا بقدر أكبر
على فهم الحياة وتقبل تقلباتها والتواؤم مع ظروفها المتغيرة، فضلا عما يعكسه
الموقف المتسامح الذي يتخذه الإنسان باختياره من اعتزاز داخلي بالنفس يضع به المرء
نفسه في موقف القاضي الذي يملك الحكم على تصرفات الآخرين والعفو عنهم إذا شاء وليس
موضع ممثل الاتهام الذي يتناطح باستمرار مع من يتهمه.. ويناله رذاذ عنيف غالبا من
جداله معه.
كما أن هذا الموقف المتسامح يعكس
أمرا آخر بالغ الأهمية في شخصية صاحبة هو أنه لا يحصر ذاته واهتمامه وشواغله في
اللحظة الراهنة وحدها كأنما قد تجمد الكون عندها ولا يثبت الصورة السلبية
المؤلمة له
أمام ناظريه، فيتعذب بها ويكابد مشاعرها الكريهة دائما، وإنما يدعها تمر، لتتوالى
من بعدها الصور والمشاهد الأخرى وفيها ما يرضيه ويدعم ثقته بنفسه ورضاه عنها وعن
حياته، من تقدير الآخرين له ومن عطاء الحياة السخي له في الجوانب الأخرى، وليس
بمستبعد أن يستمر توالي المشاهد والصور أمام ناظريه فإذا به يرى في بعضها من أساءوا
إليه وهم يستنجدون به أو يلهجون بشكره وتقديره أو يعترفون بخطئهم في حقه.. أو
يصرخون إن لم يفعلوا هذا ولا ذاك من متغيرات الحياة وتقلب الأحوال.
ولهذا فلقد قيل بحق أن الشخصية المتسامحة، هي
شخصية ذات نظرة شاملة ومستقبلية للحياة وليست ذات نظرة أحادية ضيقة ومتحجرة أمام
الأحداث العابرة وأنها شخصية تعد نفسها دائما بغد أفضل تجد فيه الكرامة والأمان
والتقدير المفتقد من جانب البعض في بعض مراحل الحياة، ولا شك يا سيدتي أنك قد
اتخذت هذا الموقف المتسامح تجاه إساءات زوجك وخياناته المتكررة لك.. وها أنت الآن
ترين أن لكل شي نهاية مهما طال الأمد، ولكل دورة صعود دورة أخرى في الاتجاه الهابط،
كما هي سنة الحياة وفطرتها .. وتلمسين بالتجربة أنه إذا لم يتعفف المرء بإرادته
واختياره الأخلاقي والديني عن الخطأ فلقد يتوقف عنه عجزا واضطرارا، فيكون كمن قيل
عنهم لم يتركوا الذنوب حتى تركتهم الذنوب ولو أنصف الإنسان نفسه لما فعل ذلك. ولما
سعد بعجزه عن الخطايا.. وقد كان في مقدوره أن يتعفف عنها وهو في عنفوان قدرته على
الحياة وعلى الاختيار، ويكفي هذا القدر للتعليق على رسالتك الممرورة لأضع
ندائك أو نصيحتك للآخرين أمام أنظار من يهمهم الأمر وشكرا لك.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1997
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر