الجبل الراسخ .. رسالة من بريد الجمعة عام 1998
لقد قلت
مرارا إن الثقة العمياء كالشك الدائم كلاهما لا يحمى العلاقات الإنسانية من
الانهيار .. وأن ما يحتاج إليه الإنسان حقا هو الثقة المبصرة التي لا تغفل عن
الحقائق ولا تتعامى عنها.
عبد الوهاب مطاوع
كان رأیی
دائما أن الإنسان يستطيع حل مشاكله بنفسه حتى ولو احتاج لمشورة من هم أكثر منه
علما وخبرة.. لكني بالرغم من ذلك شعرت بالرغبة الشديدة في أن أفضفض معك عما يشغلني
لأني اعتبرك أخا وصديقا على البعد.. فأنا سيدة في الخمسينات من عمري على قدر من
الجمال كما يقول الآخرون عني ولدي قبول من الجميع والحمد لله.. وقد تزوجت منذ
ثلاثين عاما من رجل يشهد له الناس بالأدب والأخلاق والشهامة والرجولة ومخافة
الله.. وأحببته بكل ما في قلبي من قدرة على الحب والعطاء ومضت رحلة العمر بنا في
وفاق وسعادة، وتفرغت عقب تخرجي في الجامعة لبيتي وأبنائي وأنجبنا ثلاثة أبناء،
وكبر الأبناء وتقدموا في مراحل الدراسة حتى تخرجوا جميعا في كلياتهم .. وبدأوا
رحلتهم مع الحياة، وارتبطوا بشركاء وشريكات الحياة واختاروا أسرا فاضلة وكريمة
لمصاهرتها ، ورزق الله كلا منهم بطفل جميل، فصار لنا أنا وزوجي ثلاثة أحفاد ازدادت
بهم حياتنا بهجة وجمالا.. وأصبح من يرانا لا يصدق أن لنا أحفادا، فأنا محتفظة
بقوامي وهندامي وحيويتي وزوجي كذلك بالرغم من اقترابه من الستين.
واكتملت الصورة الجميلة لحياتنا الزوجية
والعائلية .. ثم لاحظت على زوجي قبل فترة قصيرة كثرة خروجه بمفرده لأسباب واهية،
وكثرة اهتمامه بالنظر في المرأة قبل الخروج .. وبالعطور وغير ذلك من الأشياء التي
لا تلحظها إلا عين الزوجة المحبة التي تعرف زوجها جيدا كما تعرف نفسها، وتساءلت عما يكون وراء هذه
المتغيرات .. وتساءلت عن دلالتها وقد كان زواجنا دائما كالجبل الراسخ الذي لا
تزلزله الأحداث .. وبدأت أراقبه بدون أن يشعر إلى أن اكتشفت أنه قد تزوج منذ ثلاث أو
أربع سنوات من سيدة مطلقة لا جمال لها ولها أبناء وليست على مستوى علمي أو اجتماعي
أو عائلي مناسب، وواجهته أمامها فلم يستطع الإنكار وعرفت لدهشتي الشديدة أنه قد
تزوج هذه السيدة خلال فترة انشغالي بتجهيز الأبناء للزواج وكثرة خروجي معهم لشراء
مستلزماتهم وتركي له بمفرده في هذه الفترات.
وانهار الجبل الذي ظننته راسخا طوال العمر في
لحظات.. وضاع الحب والثقة
والكرامة وكل شيء.
لقد قرأت لك ذات مرة في أحد ردودك
أن الزوج إذا خان زوجته فإنه يطعنها في كرامتها، أما الزوجة إذا خانت زوجها فإنها
تطعنه في شرفه وأنا اعتبر زواج شريك حياتي هذا بالرغم من أنه زواج شرعي ولا يغضب
الله خيانة لي ولعشرة السنين وللأبناء والأحفاد ولكل همسة حب تبادلناها معا ولكل
الأفراح والأحزان التي تشاركنا فيها طوال ثلاثين عاما .
وانهرت أمام ما حدث انهيارا
تاما. وطلبت منه الطلاق وتمسكت به وتكتمت الأمر عن عائلتي وعائلته وأصهارنا لكي
أحافظ على صورته المحترمة في عيونهم.. لكني جمعت أبنائي الثلاثة وصارحتهم بكل شيء ..
وأبلغتهم بقراري بالطلاق من أبيهم واحترموه ولم يناقشوا والدهم فيما فعل لأنه كما
قالوا حر في تكملة مسيرة حياته كما يشاؤها لنفسه.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
ليست هناك في العلاقات الإنسانية جبال راسخة لا تتحرك ولا تتغير ولا يؤثر فيها الزمن، فكل شيء في العلاقات الإنسانية قابل للتغير والتحول والإنسان مطالب إلى جانب ثقته في الآخرين واطمئنانه إليهم.. برعاية علاقته بهم وتجديدها وتكثيفها.. وتفقد بوادر الخلل فيها في بداياتها لعلاجها والقضاء عليها، وإلا فوجيء بانهيار الجبال التي ظنها راسخة كالرواسي .
وما حدث في
حياتك فيما أتصور هو أنك ربما تكونين قد اعتمدت أكثر مما ينبغي على رسوخ حبك
لزوجك.. واطمئنانك لاكتمال معالم الصورة العائلية الجميلة في حياتكما، فانشغلت عنه
خلال فترة إعداد أبنائك الثلاثة للزواج، وطالت فترات انشغالك عنه بهذا الأمر
الجليل فضعفت مقاومته للإغراء.. وعجزت مناعته عن مقاومة الغزو الخارجي لحصونه ..
تماما كما يضعف الجسم في بعض الأحيان فيسهل على الجراثيم غزوه وتعجز مناعته عن
مقاومتها والقضاء عليها.
ولقد قلت
مرارا إن الثقة العمياء كالشك الدائم كلاهما لا يحمى العلاقات الإنسانية من
الانهيار. وأن ما يحتاج إليه الإنسان حقا هو الثقة المبصرة التي لا تغفل عن
الحقائق ولا تتعامى عنها، وليس معنى كلامي هذا أنني أحملك كل المسئولية عما فعل
زوجك أو أبرئه من تهمة خيانة عهد الوفاء لك حتى ولو كان ذلك بالزواج الشرعي الذي أحله
الله سبحانه وتعالى، لأنه في مثل حالتك خيانة بالفعل لعهد الوفاء لك، ولو لم يكن
كذلك لما استخفى به
عنك.. ولما
تكتمه وكأنما يزاول أمرا إدا إلى أن تكتشفيه ويضطر للرجوع عنه .. غير إني لا استبعد أيضا أن يكون لأزمة
منتصف العمر أثر في إقدام زوجك على هذا الزواج الذي يتعارض مع معالم الصورة
العائلية الجميلة التي اكتملت له بعد رحلة السنين، ولقد أطلت الحديث من قبل عن هذه
الأزمة وكيف يشعر معها الرجل أحيانا بالرغبة في أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه
مازال الرجل الذي كان في مراحل سابقة من العمر.
ولهذا فلن أكرر الحديث عنها مرة أخرى، لكني
أقول لك فقط أن المثل الأمريكي الشائع يقول : "لا تنشر نشارة الخشب وإنما
تخلص منها وأزحها فقط عن عتبة بابك" .. ومعاناتك الآن بعد إقرار زوجك بخطئه
في حقك ورجوعه عنه.. وعودته بكل مشاعره إليك، ليست سوى محاولة لا طائل تحتها لنشر
نشارة الخشب ولا عائد لمثل هذه المعاناة سوى مضاعفة الخسائر النفسية والصحية
واجترار الأتراح وإفساد الحياة بلا مبرر.. والحب يا سيدتي قلب غفور يغفر كل
الأخطاء لمن يحبه.. ويقبل الأعذار.. ويصفح ويتسامح إلى النهاية، ولقد انتصرت في
هذه المعركة الخاطفة يا سيدتي ورجع إليك زوجك واعتذر، وصحح أوضاعه، ومن الحكمة أن تسعدي
بعودته إليك ورجوعه عن خطئه.. وتحتفلي بانتصار الحب على هذه المحنة الطارئة، لا أن
تبددي أوقات العمر الثمينة في المعاناة.. ومحاكمة الماضي الذي لا جدوى من
الاستمرار في محاكمته إلى ما لا نهاية .. ولقد أعجبني تعبيرك الذي قلت فيه إنك قد
اعتبرت زواج زوجك من أخرى سرا خيانة للحب والعشرة والأبناء والأحفاد والصورة
العائلية الجميلة التي رسمتها معا معالمها على مر السنين.. لكنه لم يعجبني عدم
احتفالك باستعادة زوجك ولا عدم مصالحتك لنفسك ونسيان ما مضى منه بعد عودته.. ولا
تفكيرك في معاودة طلب الطلاق بعد هزيمة الغدر وانتصار الحب والوفاء والأبناء
والأحفاد والصورة العائلية المحترمة على كل ما عداها .
إننا نحتاج في
كثير من الأحيان لأن نعرف ماذا يستحق منا أن نسعد به ونعتز .. وماذا يجدر بنا أن
نشكو منه ونتألم.
وأنت لديك
الآن ما تسعدين به وتعتزين، فلا تدعي الشكوى تفسده عليك أو تحّول فوزك به إلى
خسارة.. وانظري للأمر كله من جانبه الايجابي
وهو اختيار زوجك لك وتصحيحه
لأوضاعه ..
فإذا كان من حقك أن تحزني من قبل
لانهيار الحب والثقة والجبل الراسخ على غير انتظار.. فمن واجبك الآن أن تعتزي
بصمود الحب للغزو الخارجي.. وباختيار زوجك لك ولأسرته وأبنائه وأحفاده حين وجد
نفسه في موقف الاختيار بين كل
ذلك .. وبين أى شيء آخر في الحياة.. والسلام.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر