نقطة ضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 

نقطة ضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

نقطة ضعف .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984


إذا كان القانون العام لا يحمي المغفلين.. فقانون الحياة أشد قسوة معهم في هذه الحالة، لأنه يدعهم يدفعون ثمن حمقهم وغفلتهم من أعصابهم وسعادتهم واستقرارهم "بلا عزاء" .

عبد الوهاب مطاوع

لا أعرف كيف أبدأ رسالتي فأنا في الحقيقة خجلة من نفسي أكثر من أي إنسان أخر، وأنا أكتب إليك لعلك تخفف عني بعض الأمر.

 فأنا سيدة في الثلاثين من عمري جميلة ومثقفة وأعمل عملا مرموقا، وقد عشت حياتي كأي فتاة أحلم بالبيت السعيد الذي يضمني مع زوجي وأبنائي لكن الأحلام شیء والواقع شيء أخر، فتزوجت من إنسان لا تربطني به أية رابطة سوى وثيقة الزواج .. وعشت معه سنوات أكشفت خلالها أن هناك فوارق شاسعة بيني وبينه في كل شيء في الشهادة وفي التعليم وفي البيئة وفي طريقة التربية .. ولم أكتشف كل هذه الفوارق للأسف إلا بعد الزواج وبعد أن أنجبنا طفلا جميلا فتحملت الحياة خيرها وشرها، وكان من الممكن أن تستمر بنا سفينة الحياة هكذا إلى ما لا نهاية، لولا أنه في هذه ا الظروف بدأت مشكلتي الحقيقية.

 

ففي هذه الظروف زرته في مكتبه لأمر من الأمور أما هو فهو أحد أقاربي وهو شخص ناجح ومرموق يلجأ إليه دائما أفراد الأسرة لحل مشاكلهم فيحلها لهم بأذن الله ووالدته تفخر به وتتكلم دائما عنه بإعجاب، ويبدو أن عدوى إعجابها به وفخرها به قد امتدتا إلي أنا أيضا. فأصبحت أفخر به وبانتسابه إلى عائلتي وفي هذه الزيارة "التاريخية" لمكتبه رحب بی بحرارة شديدة حتى كاد من فرط سعادته بي أن يشيل الدنيا أمامي، وفرحت باستقباله لي وحرارته وطال بنا الحديث ففتحت له قلبي وفتح لي هو أيضا قلبه وشكا لى كثيرا من زوجته التي أحالت حياته إلى جحيم والتي لا تصلح لرعاية طفليه لأنها شبه مجنونة وعنده ما يثبت ذلك لكنه يشفق عليها وعلى طفليه من عواقب الانفصال فحاولت كثيرا أن أهدئ من ثورته.. وأن أرده عن تفكيره. ولم يخطر ببالي خلال ذلك أن هناك هدفا يتعلق بي في كل ذلك، لكني وجدت نفسي بعد ذلك شديدة الاهتمام به، وقد نجح في ذلك ببراعة لأنه لم يترك نقطة ضعف في حياتي إلا واستغلها لكي يدخل منها إلى قلبي .. وفعلا دخل إلى قلبي وأصبحت مغلوبة على أمري معه.. واتفقنا خلال هذه الفترة على كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، ولكي لا أفقد احترامي لنفسي أو أشعر بأني خائنة فقد طلبت من زوجي الطلاق لأحرر ضمیري مما يعانيه ولأبدأ حياتي السعيدة مع قریبي، ووافق زوجي على الطلاق بسهولة وقبلت كل مطالبه وتنازلت عن كل حقوقي وتم الطلاق بسرعة وأنا غير نادمة عليه!

وعشنا أياما سعيدة بعد الطلاق نلتقي كل يوم ونتحدث تليفونيا كل ساعة ونحسب بالدقائق والساعات أيام العدة ماذا مضى منها وماذا بقي؟ وبعد كم يوم سوف نحقق أحلامنا الوردية ؟ ثم لاحظت فجأة مع اقتراب أيام العدة من نهايتها في أحاديثه معی نغمة جديدة لم ألحظها من قبل .. فقد قال لي ذات يوم خلال حديث طويل أنت صغيرة وجميلة وكثيرون هم من يتمنون الزواج منك بعد انتهاء العدة.. ولم أفهم هذه الإشارة في البداية بل تصورتها لغبائي وسلامة نیتي غزلا رقيقا لى، فازددت رضا عن نفسي وسعادة بها، ومضيت أعد نفسي للحياة الجديدة السعيدة فأشتري بعض الفساتين وأهتم بنفسي لكن النغمة الجديدة تكررت يوما بعد يوم، ثم أضيفت إليها نغمة أخرى هي الحديث لأول مرة عن صعوبة الحياة هذه الأيام المادية والأهوال التي تنتظره من جانب زوجته في حالة زواجه بأخرى ونفقات أولاده.. إلخ.

 

 وهنا فقط فهمت ولأول مرة مالا يريد أن يصرح به .. وحين فهمت.. شعرت فجأة وكأني قد هویت في قاع بئر سحيقة أو كأني قد سقطت من سطح أعلى عمارة في القاهرة إلى الطريق.

 يا ربي.. هذا حقا ما يريده.. وبهذه البساطة ؟ وبعد أن هدمت أسرتي و حیاتي من أجله ؟

 



ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

إنني أرى في قصتك يا سيدتي .. أنك قد سقطت فعلا في قاع بئر سحيقة وأنك تحتاجين إلى إرادة قوية وإلى شجاعة لكي تنتشلي نفسك منه قبل أن يجرفك التيار إلى ما هو أبعد من ذلك.. فالحق أني أخشی من تسامحك الغريب هذا الذي غفرت به له بسهولة تدمير حياتك وهدم معبدك بأحلام وردية لم تلبث أن تبددت في الهواء حين اصطدمت بأرض الواقع وأخشى أن تواصلي، تسامحك، وهو ليس فضيلة في هذه الحالة فتنسين له أيضا بعد قليل غدره بك ورغبته فيك كما أنت، فتلتقيان من جديد لتواصلا الحديث عن صعوبة الحياة، وتخدعان نفسيكما عن حقيقة وضعكما.

 

أنني أقاوم بصعوبة أن ألومك بقسوة على ما فعلت فلقد أقدمت برعونة شديدة على تدمير حياتك وجريت وراء أوهام .. کمراهقة معصوبة العينين لا ترى الطريق الواضح أمامها وهو طريق خاطئ منذ البداية .. ويكفيك ما تعانينه الآن لكني فقط أتساءل أين طفلك الجميل في هذه القصة كلها ؟ هل تنازلت عنه هو الآخر مع باقي ما تنازلت عنه لكي تتخلصي بكل الطرق من زوج اخترته بإرادتك وعشت معه سنوات باختيارك إلى أن التقيت بمن قادك إلى هذه الهاوية؛ إن كان ذلك ما حدث فلقد خسرت كل شي فعلا، وأنت بذلك شخصية مندفعة تسيطر عليها عواطفها وتقود تصرفاتها ولا سبيل للعقل عليها كثيرا .. لكني أقول لك يا سيدتي أن ما حدث رغم قسوته.. وبشاعته كان منطقيا.. فأنت حين كنت زوجة.. كنت مجرد قصة حب رومانسية لرجل متزوج، ورغم أنها قصة محرمة فإن عبئها هين عليه.. لأنها لا تكلفة شيئا ولا تحمله أية مسئوليات، لكنك حين استجبت لعواطفك وحدها وحصلت على الطلاق لم تعودي منذ هذه اللحظة مجرد قصة حب رومانسية.. وإنما أصبحت "مسئولية" کبری .. أو كارثة بمعنى أصح تعني شقة أخرى .. وخلو رجل ونفقات أولاد.. ونفقات أسرتين وقضية أمام محاكم الأحوال الشخصية إذا رفضت الزوجة الأولى الموافقة على زواجك منه وكانت سترفض بكل تأكيد، لذلك تبخرت الرومانسية سريعا.. وعاد بسرعة إلى "الواقعية" .. والحديث عن صعوبة الحياة.. ومشاكل قانون الأحوال الشخصية، والسؤال الذي لابد أن يثار هنا هو أين كان كل ذلك حين أقترب منك واستغل فيك كل نقاط الضعف، ليصل إليك؟ وأين كانت كل هذه النظريات الواقعية العظيمة؟

وأيا كانت مسئوليته عما جرى لك.. فمسئوليتك عنه هي الأولى والأخيرة، فإن حياتك وشرفك هما مسئوليتك أنت قبل أن تكون مسئولية الآخرين، وإذا كان القانون العام لا يحمي المغفلين.. فقانون الحياة أشد قسوة معهم في هذه الحالة، لأنه يدعهم يدفعون ثمن حمقهم وغفلتهم من أعصابهم وسعادتهم واستقرارهم "بلا عزاء" .. فضعي النهاية يا سيدتي لهذه القصة.. وأفيقي فشريكك فيها ليس جادا ولا يريدك إلا كما أنت الآن قصة رومانسية في الظل بلا مسئولية وبلا متاعب.

فتوقفي الآن عما تفعلين وغالبي نفسك فأنت مغلوبة على أمرك معه فعلا.. وأعیدي حساباتك.. ولا تنسي منها أهم شيء فيها وهو

طفلك الجميل.. فإذا كنت قد نصحت الطرف الآخر بأن يعيش لولديه فلماذا لا تنصحين نفسك بالعيش لطفلك .. مع زوجك إن سامحك وغفر لك.. أو وحيدة إلى أن تبدئي حياة جديدة مع من لا تقف بينك وبينه "شومة" قانون الأحوال الشخصية .. ولا "صعوبات الحياة" التي ننساها خلال استسلامنا لمشاعرنا.. ثم نتذكرها فجأة عندما نرغب في التخلص من إحدى حماقاتنا؟.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات