الكارثة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

 

الكارثة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

الكارثة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985


من بين الرسائل العديدة التي يقرأها الإنسان .. يتوقف أحيانا عند رسالة تمس أوتار قلبه.. أو تثير تأملاته أو تأسره بصدقها، ولقد توقفت هذا الأسبوع أمام هذه الرسالة التي بدت لي وأنا أقرأها كأنها أنشودة للصدق والبساطة والتلقائية .. تقول كلماتها:


أبدأ أولا بأن أعرفك بنفسي .. أنا ماجدة.. حاصلة على دبلوم ثانوي صناعي منذ 4 سنوات ولم يحن دوري بعد في التعيين في القوى العاملة، لكني حصلت بعناء شديد على عمل في القطاع الخاص بعد وفاة والدي الذي لم يترك لنا من حطام الدنيا سوی معاش ضئيل لا يكفي لإطعامنا أو تلبية طلباتنا لأكثر من يوم 10 في الشهر.. ونحن نعيش في مدينة دمنهور.. ونسيت أن أعرفك بإخوتي.. وهم میرفت في سنة أولى ثانوی ومحمد في سنة ثالثة إعدادي.

 

 أما والدتي فهي إنسانة بسيطة جدا وطيبة جدا ولا تدخر وسعا لإسعادنا وعدم إشعارنا باليتم بعد وفاة أبي.. وهي لا تملك ماكينة خياطة كما أقرأ في رسائل بعض أصدقاء البريد.. لكنها تعمل عملا آخر للمساهمة في نفقات البيت.. وقد بدأ هذا العمل باقتطاع عشرة جنيهات من راتبي الصغير اشترت بها كتاكيت وجاءت بها إلى البيت لتعطيها كل عنايتها واهتمامها.. فتقوم بخدمتها كل يوم وتصرف عليها وتربيها حتى تكبر.. وإذا إصابتها وعكة صحية تحملها إلى طبيب الوحدة البيطرية وتعرضها عليه ويعطيها الحقن.. وتحضر معها دواء من الوحدة تضعه في الماء الذي تشربه الكتاكيت، وهكذا إلى أن تتحول إلى دجاج بعد حوالي شهر ونصف الشهر أو شهرين.. فتقوم ببيعها في سوق البلدة بحوالي 50 جنيها، وتذهب على الفور إلى تاجر الكتاكيت وتشتری ۲۰ كتكوتا جديدا بعشرة جنيهات، وتعود سعيدة بالمكسب الحلال.. فتوسع على البيت ببعض الأشياء وتسدد بالباقی دیوننا التي تكون قد تراكمت خلال الشهرين الماضيين بسبب نقص المعاش وراتبي عن طلباتنا.. وهكذا تمضي الحياة بنا بسيطة عادية .. لا مشاكل فيها سوى مشكلة واحدة أزلية ... أراها واصطدم بها منذ وعيت على الدنيا هي مشكلة الفلوس!

 

فأنا أذهب إلى عملي ولا يوجد في جيبي سوى عشرة قروش وأحيانا والله العظيم أذهب إلى عملي بلا أي فلوس وأحيانا لا أمتلك ثمن شراء جريدة أقرأها، وفي الأسبوع الماضي ميرفت أختي انقطع شرابها.. فبكت لكي نشتري لها غيره.. وسنشتري لها غيره طبعا.. لكن المسألة أنها عايزاه في لحظتها.. وهذا غير ممكن ولابد أن تتعلم الصبر مثلنا فأنا مثلا تعودت أغسل أسنانی بمعجون الأسنان، لكنه نفد منذ أسبوع ولا أملك ثمنه.. فماذا أفعل؟ .. سأنتظر بالطبع إلى أول الشهر وهكذا لابد أن الإنسان يتحمل ويتعود على ظروفه.. ورغم أني أقول هذا فقد فقدت صبري هذا الأسبوع.. وهذا هو سبب رسالتي إليك.. فقد حدثت لنا یا سیدی "كارثة" اقتصادية هي موت جميع الكتاكيت وهي صغيرة قبل أن تكبر نتيجة لمرض مفاجئ لم تنفع معه خبرة أمي ولا رعايتها.. فطارت الجنيهات العشرة.. وطار مكسب الدجاج .. ولك أن تستنتج ما حدث بعد موتها فلقد خيم الحزن يومين طويلين على بيتنا.. وآثار هذا ألمي لحالنا، أن تكون سعادة أسرة مثلنا مرهونة بحياة عشرين كتكوتا صغيرا إذا نجت نجونا معها وسددنا الديون وأصلحنا التليفزيون القديم.. وإذا هلكت.. تلخبطت حياتنا.. وتغير ترتيبنا لأشياء كثيرة .. أليس هذا وضعا غريبا؟ 

إنك یا سیدی ربما ترى فيما أقول شيئا تافها ولا يستحق أن ينشر ولا أن تعلق عليه لكنها بالنسبة لي بالذات ليست كذلك.. لذلك فإني أكتب إليك لتقول لي بعضا من كلامك الذي يريحني كثيرا لتخفف عني هذا الضيق وشكرا.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لا يا صديقتي.. لا أستطيع أن أكتب لك "بعضا من كلامي" لكي يريحك ويخفف عنك ضيقك بهذه "الكارثة" فالكلام وحده لا يفيد في مثل حالتك.. كما أني لست قادرا عليه الآن لذلك فسوف أرتب مع جمعية "اختار أسرة" وهي جمعية تتولى رعاية عدد كبير من الأسر التي تعيش مثل ظروفك، أن يقوم مندوبوها بزيارتكم في أسرع وقت

لاتخاذ الإجراءات العاجلة لإزالة آثار هذه الكارثة! ومنع تكرارها في المستقبل بإذن الله ! وهذه الجمعية يقوم أخصائيوها المتطوعون بدراسة الحالات المماثلة لحالة أسرتك دراسة مستوفية.. ثم تقدم تقاريرها لمن يرغب في كفالة إحدى هذه الأسر لفترة معينة، وشروطها لذلك أن تكون الأسرة من الأسر المتعففة التي لا تسأل الناس إلحافا، وأن يكون لها أبناء في التعليم لا يتكسبون، ثم ترتب بعد ذلك مع الكفيل الذي لا تعرفه الأسرة عادة.. إمداد الأسرة بمساهمات شهرية تعينها على نفقات تعليم الأبناء للفترة التي ترى الجمعية أنها تستطيع بعدها الاكتفاء بنفسها، وخلال هذه الفترة تقدم للكفيل تقارير عن تقدم الأبناء في التعليم.. كما تقدم له صور إيصالات استلام المساهمات، في موعدها.

 

وبريد الأهرام يقوم بالتعاون مع هذه الجمعية العزوفة عن الإعلان عن نفسها برعاية عدد من الأسر، وقامت الجمعية مشكورة بدراسة حالاتها نيابة عن البريد، وقبلت كفالتهم لها ويسعدني بكل تأكيد أن تنضم أسرتك إلى عداد هذه الأسر، فلقد شممت في رسالتك رائحة التعفف.. ومسك البساطة والقناعة، وآمل أن تتم الإجراءات بسرعة متناهية بإذن الله، وعند ذلك فقط سوف أستطيع أن أعزف في أذنك أعذب الألحان.. وأن أكتب لك أرق الكلمات.. أما قبل ذلك فآسف.. لا يطاوعني قلمي!

20 ديسمبر 1985

بتاريخ 7 فبراير 1986

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات