الجريمة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1996
قدر بعض التعساء أن يجيئوا إلى الحياة من صلب آباء لا يستحقون نعمة الأبوة ولا يقدرونها حق قدرها، وللحق إنني أتمنى أن يكون للقانون دور رادع لأمثال هؤلاء الآباء يجبرهم على تحمل مسئولياتهم عن أعراضهم ويرغمهم على حمايتها إن هم ضاقت نخوتهم بهذا الواجب الأخلاقي.
عبد الوهاب مطاوع
ترددت كثيرا في أن اكتب إليك لأنني كلما قرأت بابك ولمست مشاكل الآخرين ومآسيهم شعرت بأنني يجب أن أحتمل حياتي وألا أثقل عليك بمتاعبي، إلى أن استحكم الخناق حولي في الفترة الأخيرة فلم أجد مفرا من أن أشكو اليك ما ألاقيه من أقرب الناس إلي ومن الحياة لها.. فأنا يا سیدي فتاة جامعية في الخامسة والعشرين من عمري، أعيش في مدينة الإسكندرية .. وكانت حياتي هادئة ومستقرة إلى أن توفيت والدتي التي كانت تمثل لي كل شيء في الحياة، بعد عذاب طويل مع المرض، فخلا البيت بعد رحيلها علي وعلى شقيقي الأصغر مني بثلاث سنوات وأبي.. أما باقی أشقائي فقد تزوجوا ويقبعون في مساكنهم المستقلة.
ولقد ماتت أمي الحبيبة بين يدي فاستراحت رحمها الله مما لاقته من عذاب المرض وبعد سبعة شهور فقط من رحيلها راح أبي سامحه الله يذيقني كل أشكال الهوان والضرب المبرح والمعايرة، بأنه لم يتقدم لي أحد لكي يتزوجني، وفي كل صباح يوقظني أبی من نومی بعنف لكي أخرج للبحث عن عمل يؤمن لي نفقات حياتي حتى لا يتكفل هو بها. وللأسف فإني لم أجد عملا مستقرا أبدا خلال الفترة الماضية .. وجربت العمل كبائعة في بعض المحلات التجارية فكان أصحاب هذه المحلات يتخلصون مني بعد قليل، لأنني جامعية ولأنني محجبة، فأرجع بالخيبة إلى أبي وأنا ارتجف مما ينتظرني منه، ويتمادى هو في فضائحه معي أمام الجيران حتى بلغ به الحال أن يهددني بالطرد من البيت إن لم أجد عريسا يتزوجني ويريحه مني لكي تخلو له الشقة ويتزوج هو فيها ويعيش حياته كما يقول.
ونفس الحال مع شقيقي الذي ضاق بتهديدات أبي له فغادر البيت ولا أعرف إلی أين ذهب منذ أسابيع، أما أنا فماذا أفعل وأنا فتاة مغلوبة على أمري .. وإلى أين اذهب یا سیدی؟.
لقد لجأت لإخوتي طبعا واحدا وراء الأخر وطالبتهم بأن يدافعوا عني لدي أبي .. ويقنعوه بأنه ليس ذنبي أنه لم يتقدم لي أحد حتى الآن فكانوا يعتذرون عن ذلك بأنه لا جدوی من الكلام معه، ويستضيفني كل منهم بضعة أيام ثم أرجع إلى بيت أبي کارهة قبل أن يضيق بي أحد، فلا أجد منه إلا التهديد والسخط والكراهية بلا سبب .. وقد رجعت ذات مرة من عند أحد إخوتي ودققت باب الشقة على أبي فرفض أن يفتح لي الباب وظل مصرا على ذلك لفترة طويلة حتی توسل إليه الجيران.. فما هي الجريمة التي يعاقبني عليها أبي وأنا ارعي الله كل أمور حياتي وارتدي الحجاب وعلى قدر من الجمال؟
إنني أعيش في رعب قاتل كل يوم من اللحظة التي سيطردني فيها أبي من بيته وهي آتية لا محالة في أي وقت .. حتى لقد فكرت جديا في التخلص من حياتي لولا خشيتي من عقاب الله . فماذا أفعل يا سيدي .. وما هي ۔ مرة أخرى - جريمتي التي أعاقب عليها هذا العقاب وألقى من أجلها هذا الهوان؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
قدر بعض التعساء أن يجيئوا إلى الحياة من صلب آباء لا يستحقون نعمة الأبوة ولا يقدرونها حق قدرها، فهو قدرك إذن يا آنستي وليست جريمتك أن تولدي لهذا الأب الجاحد لنعمة ربه والخائن للأمانة التي أستودعه إياها ولسوف يحاسبه عنها أشد الحساب.
إن مسئولية الآباء عن بناتهم لا تنقطع حتى بزواجهن ودخولهن في عصمة رجال آخرين يتحملون عنهم مسئوليتهن الأدبية والأخلاقية، وإنما تتواصل هذه المسئولية بالحب والعطف والحنان حتى اللحظة الأخيرة من حياة الآباء ولا عجب في ذلك ولا غرابة فهذه هي تبعات الأمانة التي أراد لهم الله سبحانه وتعالى أن ينهضوا بها حين أنعم عليهم بنعمته، وكثيرون هم من يسألون ربهم آناء الليل وأطراف النهار بعض ما يضيق به هذا الأب الجاحد ويتنصل منه ويتلهف على الخلاص من مسئوليته.. والحق إنني لا أتصور كيف يعير أب ابنته الشابة بأنها لم تتزوج بعد.. إذ ماذا يريد منها أن تفعل لكي تحقق له ذلك، وما هو المطلوب منها على وجه التحديد لكي تلتقي بمن يستحقها ويسعد بها، هل يحثها ذلك على أن تعرض نفسها على الآخرين.. وهل يرضي ذلك حقا رجولته وأبوته وهو المسئول عنها أمام خالقه وأمام الناس.
لقد أثر عن أحد الصالحين أنه كان إذا أنجبت له امرأته بنتا أجازها بجائزة ثمينة إعلانا لابتهاجه بمولدها وشكرا لربه على نعمته، وإذا أنجبت له ولدا لم يجزها بشئ .. فسئل عن تفسير ذلك فقال أنه يجيز امرأته حين تنجب له بنتا مخافة أن تظن به أنه كان يرغب في الولد؟
وهكذا يفعل من يقدرون نعمة ربهم عليهم ويحفظون أمانتها..
أما الأحنف بن قیس فلقد سئل عن الأبناء بنات وبنين، فقال :هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا .. ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم تصول على كل جليلة فإن طلبوا فأعطهم وإن غضبوا فأرضهم
لكن ما جدوى الكلام حقا مع أحجار الصخور وأشجار الصنوبر من أمثال هذا الأب ؟
لا طائل بالفعل وراء أي كلام مع من ينبذ ابنته الشابة ويهددها بالطرد من جنته كل لحظة لكي يعيش هو حياته .
وللحق إنني أتمنى أن يكون للقانون دور رادع لأمثال هؤلاء الآباء يجبرهم على تحمل مسئولياتهم عن أعراضهم ويرغمهم على حمايتها إن هم ضاقت نخوتهم بهذا الواجب الأخلاقي.
فاكتبي لی يا آنستي باسمك وعنوانك كاملين أو توجهي مساء الغد إلى مكتب الأهرام بالإسكندرية واتصلي بي من هناك لعلي مستطیع لك شيئا وشكرا.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر