الابتسامة المتحجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997

 

الابتسامة المتحجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997

الابتسامة المتحجرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997

في البداية أود أن أقول لك إنني صديق قديم لهذا الباب ، ولا تلهيني مشاغل الحياة عن الاحتفاظ بأعداده السابقة ، وقد تشجعت أخيرا على أن أشركك في شجوني ، فأنا محاسب شاب عمري 41 سنة ، نشأت في أسرة يسودها الترابط والتلاحم وتعتز بأواصر القربی .

وكان قدوتي في ذلك هو أبي ، الذي كان مثالا للعمل الصالح والحرص على صلة القربی ، وقد نشأت في كنف الطبيعة بالريف .

وبعد أن عملت واستقرت أحوالي ، ارتبطت بابنة عمي ، التي وجدت فيها ما لم أجده في غيرها من الجمال والتفاهم والحب والقناعة ، وتزوجنا وسط فرحة الأهل ، ومضت حياتنا هادئة وجميلة ، يظللها الحب والتفاهم والاحترام المتبادل ، وتكلل الحب والوئام بمجيء وليدتنا الأولى ؛ فكانت طفلة في غاية الجمال والرقة ، وبعد ثلاث سنوات أخرى، هلت علينا طفلتنا الثانية ، واستقبلناها بالفرحة الطاغية ، فإذا بالفرحة تنحسر .. والابتسامة تتحجر على الشفاه .

 

فقد جاءت طفلتنا الثانية ، وبها عيوب خلقية في ذراعيها ، وساقيها اللتين تكادان تلتصقان بمقعدتها ، كما أنها بغير معالم واضحة للقدمين .. وخیم الحزن والإشفاق على حياتنا ، وحملنا الطفلة إلى الأطباء في المنصورة وطنطا والقاهرة ، واختلفت الآراء حول تقييم الحالة ، وتقریر الجراحة المطلوبة .

ولم نتوصل حتى الآن إلى أول طريق للأمل ، فسلمنا بإرادة الله ، وحاولنا أن نؤجل الإنجاب مرة ثالثة إلى أن يتضح لنا الطريق ، فحدث الحمل الثالث على غير ما خططنا له ، وأشفقت زوجتي من أن يجيء المولود الجديد بهذه العيوب الخلقية ، وراحت تتابع حملها عند أستاذين للطب بالمنصورة ؛ لاكتشاف أي خلل في الجنين ومعالجته في الوقت المناسب ، فكان الأطباء يطمئنونا .. وكان إحساس زوجتي يرفض الاطمئنان، وتتوجس دائما من المجهول، إلى أن صدق حدسها واكتشف أحد الأطباء - وهي في شهرها الثامن - الحقيقة المفزعة ، وهي أن الجنين سيأتي إلى الدنيا وحالته كحالة طفلتنا المعاقة .

 

وتحققت المخاوف بالفعل ، وجاء وليدنا الثالث طفلا جميلا ، يتفجر بالصحة والشقاوة ، ولكنه كأخته السابقة في العيوب الخلقية ، ومادت الأرض بنا ، ولولا إيماننا بالله لانهرنا تماما .. ولكننا تمالكنا أنفسنا ، وتوقفنا عن الإنجاب نهائيا .

وكلما تذكرنا ما حل بطلفينا ، أسودت الحياة في وجهينا ؛ فجاهدنا

لكيلا نستسلم لأفكارنا والتمسنا الصبر والسلوى لدى خالقنا الأعظم، ولا أريد أن أطيل في هذا الموضوع ، الذي يثير أشجاننا ، و إنما نحمد الله على أننا مازلنا نسير على أقدامنا .

 

أما زوجتي فقد طبع الهم بصمته المريرة على وجهها .. وكثيرا ما رأيتها تبكي وحيدة ، فالتمس لها العذر ، وأشفق عليها مما تعانيه ، وأدعو الله أن يشفي أبناءنا ، رحمة بهذه الزوجة الطيبة ، وأود أن أوجه كلمة إلى قراء هذا الباب من المقبلين على الزواج من أقارب لهم ، وهي : ألا يقصروا في إجراء تحاليل الوراثة قبل الزواج ؛ لكيلا يفاجئهم الخطر ، ويعانوا ما نعاني منه الآن.



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

قدر الله وكما شاء فعل يا صديقي .. غير أن هناك فارقا بالفعل بين أن يشقى الإنسان بما كان يجهله ولم يتوقعه ، وبين أن يتعامل مع ما اختاره لنفسه بإرادته ، وقبل به منذ البداية ولم يفاجأ بشيء منه .

ولهذا .. فإني أضم صوتي إلى صوتك في ضرورة أن يجري المقبلون على الزواج الفحوص الطبية الضرورية ، واختبارات العوامل الوراثية ؛ تحسبا لما يمكن أن يحمله إليهم المستقبل من ظروف غير مواتية ، واستعدادا للتعامل معها بما يقتضيه من إجراءات واختيارات .

والطب الحديث يقول لنا الآن : إن كثيرا من الأمراض والعوامل الوراثية يمكن التعامل معها بأمان ، إذا تنبه لها الطرفان قبل الزواج ، واتخذا الاحتياطات اللازمة لمواجهتها وتفادي آثارها .

والجينات الوراثية التي تنقل هذه العوامل إلى الأجيال التالية .. هي آية أخرى في حد ذاتها على قدرة الخالق الأعظم جل شأنه ، فهي "شفرة" صغيرة ملغزة ، تحمل كل خصائص الإنسان ، وتنقلها أو تنقل معظمها إلى ذريته ، ومن عجائبها التي لم ينجح العلم - حتى الآن - في تفسيرها أنها قد تنقل بعض هذه الخصائص إلى بعض الأبناء ، دون البعض

الآخر .. وقد تعفي جيلا من الأبناء من خصائصها المرضية .. وتخص به جیلا يليه ، ولهذا فقد يفاجأ المرء بظهور بعض التشوهات الخلقية في الأبناء ، على الرغم من عدم وضوحها من قبل في محيط الأسرة الظاهر للعيان .

 

ومن هنا تأتي أهمية إجراء الاختبارات الوراثية والفحوص الطبية قبل الزواج ، حتى ولو لم يكن في الأفق ما يوحي بأي توقع لمثل هذه العيوب الخلفية ، والإنسان مطالب بأن يتلمس الطريق ، الذي يخطو إليه ، ويعرف مواقع أقدامه فيه ، لیس فرارا من قضاء الله .. وإنما تلمسا لمواجهة المستقبل بما يتطلبه من احتياطات ، أو تهيؤ نفسي للقبول به .. والتعايش معه .

وعلى أية حال .. فلقد حقق الطب الحديث تقدما هائلا في علاج التشوهات الخلقية وتحجيم أضرارها ، فلا تفقد الأمل أبدا يا صديقي في علاج تشوهات طفليك ، أو في تحقيق الحد الأقصى المتاح لأطرافهما من الاستواء الطبيعي ، وتفضل بإرسال تقاريرهما الطبية وصور الأشعة الخاصة بهما إلي ؛ لكي أعرضها على بعض كبار أساتذة جراحة العظام .

وأرجو الله أن يمكنني من أن أحمل إليك قريبا ما تتلهف أنت وزوجتك الحزينة على سماعه من بشری مطمئنة ، تضیء حیاتكما بشموع الأمل من جديد .. وتبدد من سمائها سحابات الهموم والأحزان بإذن الله.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1997

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات