أشياء صغيرة
كان الأب مشغولاً إلى قمة
رأسه بالاستعداد لحفل زفاف ابنته الذي سيبدأ بعد ساعات والأم تتأكد من اللمسات
الأخيرة لتورتة الفرح .. وكل شيء . والعروس الشابة في غرفتها بين صديقاتها ترتدي
الفستان الأبيض والأسرة كلها في انتظار الابن الأكبر الذي سيصل من مدينته القريبة
خلال لحظات ليحضر زفاف شقيقته الوحيدة .
وفي زحام التفاصيل الصغيرة التي انشغل بها الأب فوجئ بخطيب ابنته يأتي
ببدلة الفرح السوداء الأنيقة ويطلب منه أن يحدثه في أمر هام ، فترك الأب كل شيء
واصطحبه للحديقة .. فإذا بالشاب يطلب منه متحرجًا إلغاء الزفاف أو تأجيله إلى موعد
آخر !.
وبهدوء شديد يسأله الأب عن السبب فيجيبه الخطيب لا شيء سوى أني لست متأكدًا
حتى هذه اللحظة مما إذا كنت سأسعد بهذا الزواج أو ستسعد به ابنتك معي .. فأنا حائر
.. وكلما اقترب الموعد ازداد شكي وترددي وحيرتي ولا أعرف هل سنسعد أم سنندم .
وبخبرة الأب المجرب لا ينزعج لما سمعه لكنه يفهم على الفور أنه القلق اللذيذ الذي
ينتاب الإنسان قبيل الإقدام على خطوة أساسية في حياته ويمتص الأب حيرته وقلقه
ويؤكد له أن الزواج هو التصرف المثالي بالنسبة له ولابنته .. وأنهما اختارا بعضهما
بإرادتهما ، ولن يسعدا إلا معًا .. ثم إن الزفاف بعد ساعات والمدعوين سيصلون بين
لحظة وأخرى وليس لائقًا أن يفاجئوا بإلغاء الزفاف بعد أن ارتدوا ملابس السهرة ..
واشتروا الهدايا للعروسين ورتبوا أنفسهم على قضاء السهرة في الحفل !!.
ويفكر الشاب قليلاً . ثم يقول لا أعرف ما هو الصحيح وما هو الخطأ ؟ .. لكني
لن أتراجع على أية حال لكل هذه الأسباب ! .. ويربت الأب على ظهر مشجعًا .. وينصرف
ويتجول الشاب في الحديقة قليلاً ثم يتجه إلى البيت .. ويمر بباب غرفة العروس
فيراها بثوب الزفاف الأبيض جميلة كالملائكة .. تحاول أن تنتهي من زينتها وتلتقي
عيونهما فتبتسم له في سعادة .. ويبتسم لها في إشفاق ! .. ثم تتسع ابتسامته شيئًا
فشيئًا حتى تملأ وجهه .. ويحس فجأة بمخاوفه تتلاشى .. وبالحيوية تتدفق في عروقه ..
فيلوح لها بيده .. ويتجه بنشاط إلى الأم ليشاركها الاستعدادات ويصل الابن من
مدينته فتقبل زوجته العروس وتشترك مع صديقاتها الاهتمام بشعرها وماكياجها .. ورغم
حماسها تلمح الأم في عينيها نظرة ساهمة حزينة وقبل أن تبدأ مراسم الزفاف بقليل تجد
الأم فرصة عابرة لتسأل ابنها عن سر شرود زوجته .. فيعترف لها بأنه قد اتفق معها
على الطلاق وأنهما قد أجلاه إلى ما بعد زفاف شقيقته للكي لا يكدرا فرحة الأسرة !
وتصدم الأم .. وتتعجب مما سمعت .. فزوجته شابة رقيقة جميلة وقد تزوجا منذ عام واحد
فقط بعد قصة حب طويلة .. فكيف تبخر الحب سريعًا هكذا .. وتترك ابنها وتسرع إلى
الأب المشغول بتعليق الشرائط الملونة والبالونات في سقف الصالة وتسر إليه بالخبر المزعج
وتطلب منه أن يمنع ابنه من ارتكاب هذه الجريمة .. ويندفع الأب ناحية الابن حانقًا
لكنه يفاجأ بوصول أول المدعوين فينتزع ابتسامته ويصافحه مرحبًا .. ثم يتوافد بعده
باقي المدعوين وتزدحم الصالة بهم .. ويدخل العروسان وسط هالة من الصديقات ومن
خلفهما الأب والأم والشقيق وزوجته وتبدأ مراسم الزواج ، ثم تنطلق الموسيقى ،
ويفتتح العروسان الرقص وبعد دقيقة ينضم إليهما الأب والأم .. ثم الشقيق وزوجته ..
ثم تتسع الدائرة ويشترك الجميع في الرقص حول العروسين .. ويسود الفرح والبهجة
المكان .
ويجد الأب أخيرًا أول فرصة ليلتقط أنفاسه .. ويتذكر حديث الأم المزعج فيبحث
عن ابنه ويقوده من ذراعه إلى ركن الصالة ويسأله في ضيق : لماذا تريد أن تطلق
زوجتك!؟
ويخفض الابن عينيه ويجيب : لأني لست سعيدًا يا أبي ! فينظر إليه الأب
طويلاً .. ثم يقول له في غيظ : ومن هو السعيد يا ولدي ؟ ويرتج الأمر على الابن فلا
يدري بماذا يجيب .. فيواصل الأب حديثه :إن عدم الإحساس بالسعادة ليس سببًا كافيًا
للطلاق وهدم أسرة فقد يكون إحساسًا مؤقتًا .. لا يلبث أن يزول إذا بذل الإنسان بعض
الجهد في التواؤم مع حياته ، وقد يكون راجعًا لأسباب يتحمل هو مسئوليتها وليس من
العدل أن يحاسب الآخرين عنها .. ولو سارع كل إنسان لهدم زواجه بعد شهور لأنه لم
يشعر فيه بالسعادة التي كان يتخيلها وفقًا لتصوراته وحده لخلت بيوت كثيرة من
سكانها .. لكن الابن لا يبدي اقتناعًا بمنطق أبيه فيزداد حنقه ويمسكه من ذراعه
ويشير إلى الأزواج الذين يراقصون زوجاتهم ويقول له : انظر إلى هؤلاء الذين يرقصون
في سعادة هل يعني هذا المنظر الجميل أنهم جميعًا سعداء ! هذا مورجان وزوجته ليندا
إنهما منفصلان عمليًا منذ عام لكنهما لم يقدما على الطلاق خشية أن يندم كل منهما
على قراره وخلال ذلك يخرجان معًا ويتقدمان للناس كزوجين سعيدين وهذا سميث وزوجته
ماري إنهما لا يتحدثان إلا أمام الآخرين ومع ذلك فلم يتعجلا الطلاق أملاً في
التفاهم ..
وهذا ألكس وزوجته روز . وهذا جورج وزوجته ستيفاني .. ولماذا نذهب بعيدًا !
.. أنا نفسي .. هل يعني استمرار زواجي بأمك حتى الآن أنني سعيد أو أنني كنت دائمًا
سعيدًا .. إن هناك أشياء كثيرة صغيرة تجمعني بأمك .. فنحن نشرب قهوة الصباح معًا
.. ونتناول العشاء معًا .. وهي تهتم بي وأنا أهتم بها ونحن نتشارك في إدارة الأسرة
.. والاهتمام بها وبأختك . ونتبادل العطف وأحاديث الحياة اليومية ، والسعادة في
النهاية إحساس داخلي غامض يستطيع كل إنسان أن يستشعره في أبسط الأشياء مهما بدت
صغيرة .. ويستطيع أن يفتقده إذا أراد لنفسه ألا يراها .. وألا يستشعرها .. وإذا
طلب لنفسه دائمًا الحد الأقصى من كل شيء .
وهذا مستحيل لأن الكمال لا يتحقق إلا في الجنة وليس هناك جنة في الأرض .. ،
وأنت كما فهمت لا تكره زوجتك .. ولا تشكو من سوء طباعها .. ولا تشك في إخلاصها ..
وإنما فقط تبحث عن شيء غامض .. لا تعرف كنهه هو السعادة .. ولن تجده معها ولا مع
غيرها ، بهذا المفهوم الضيق .. فلماذا تظلمها .
ولست أعرف بماذا أجاب الابن أباه .. ولا ما هو القرار الذي اتخذه بعد ذلك
فلقد انتهت القصة الأمريكية الغريبة التي قرأتها منذ عشرين سنة .. والأسرة
والأصدقاء يودعون العروسين المنطلقين إلى إجازة شهر العسل ويرشون الملح عليهما
والجميع فرحون مبتهجون .. السعداء وغير السعداء .. والشقيق والزوجة التي يفكر في
طلاقها .. والأم والأب الفيلسوف ، ثم عاد الجميع إلى بيوتهم ولكل منهم شجونه
وأحلامه ولقد نسيت اسم هذه القصة الغريبة .. واسم مؤلفها فيما سقط من الذاكرة خلال
رحلة السنين لكني لم أنس أبدًا هذا السؤال العجيب .
فنحن جميعًا نبحث عن السعادة . لكنه لا ينالها منا أبدًا إلا من اكتشف المفتاح
السري لعالمها وهو الإيمان بالله وقضائه وقدره .. والرضا بما أتيح لنا من أسباب
السعادة والصبر على ما نكره .. والأمل دائمًا في غدٍ أفضل وفي عدم تعذيب النفس
بالطموح إلى المطلق الغامض الذي لا نعرفه ولا إلى مالا تؤهلنا إمكاناتنا للوصول
إليه .. لأن أهم أسباب الشقاء الإنساني هو عدم التناسب بين قدرات الإنسان وبين
رغباته وطموحاته .. وهو هذا التطلع الصامت إلى ما لا نستطيع تحديده أو لمسه .. أو
الوصول إليه كما أن مفتاح السعادة أيضًا في الصبر والتسامح والتجاوز عن الهنّات ..
ومحاولة فهم الآخرين والتماس العذر لهم ..
فتذكر ذلك دائمًا يا صديقي وأنت تطلب سعادتك الخاصة .. وإلا شقيت .. وشكوت
.. فيصدمك من يسمع لك بهذا السؤال المثير للتأمل : ومن هو السعيد يا ولدي ؟
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر