حياة لها معنى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

  

حياة لها معنى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

حياة لها معنى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

أكتب إليك هذه الرسالة عقب انتهائي مباشرة من قراءة بريد الجمعة.. فقد شجعني ما قرأته من هموم الآخرين أن أشكو لك همي:

مشكلتي یا سیدي أنني رجل في عنفوان صحتي وشبابي لكني رجل بلا دور ولا فائدة في هذا المجتمع.. فلقد خدمت بلادي سنوات طويلة ثم شاركت في حرب أكتوبر وأصبت فيها إصابة جزئية أدت إلى عدم لیاقتي للاستمرار في الخدمة، فأحلت للتقاعد بعدها وأنا شاب في التاسعة والثلاثين متمتع بكامل صحتي وقواي وأصبحت فجأة من أصحاب المعاشات أتقاضی معاشا محترما للغاية .. لكني بلا عمل! وأجد ما أنفقه على نفسي وأسرتي لكني بلا دور ولا حيثية !.. وقد يكون ذلك أمرا طبيعيا في مثل ظروفي لكن غير الطبيعي هو ما حدث لي في إطار أسرتی وفي إطار مجتمعي العائلي الصغير .. فلقد أحسست فجأة بعد خروجي من الخدمة بإحساس مرير بأنني فقدت شيئا جوهريا لا يعوض عندما خلعت بدلتي الرسمية .. وارتديت القميص والبنطلون! وأحسست أني قد فقدت "أهميتي" لدى بعض الأشخاص أو بالذات لدى شخص معين بعد انتهاء دوري في الحياة العملية .. أو بعد

فقدي لمنصبي المرموق .. أما هذا الشخص المعين فهو صهري بكل أسف وصهري هذا مهندس بالمعاش .. ميسور الحال لكنه لا يراعي سنه معي ولا أسلوبه في الكلام .. ولم ألاحظ هذه الحالة عليه بجدية إلا بعد خروجي من الخدمة للأسف .. فهو يوجه الكلام الجارح لي بطريقة غير مباشرة .. كأن يقول بلا مناسبة موجها حديثه لأحد غيري في حضوري وأمام زوجتي والحاضرين : "ودلوقت يابني بعد ما طردوك حتعمل إيه؟ .. حتشتغل بالتجارة  ولا حتبيع ليمون ؟ "
ثم يضحك بسعادة واستمتاع وبصوت عال وأحس أنا بدش بارد ينزل فوق رأسي.. وتحملته مرات عديدة وكدت في مرات أخرى أن "أمزقه" ثم أتراجع وأعود إلى صوابي من أجل زوجتي التي تستحق كل احترام وتقدير لأخلاقها الرفيعة وإخلاصها .

 

والكارثة إني لا اعرف كيف أتخلص من مضايقاته .. فهو حين يفعل شيئا من هذا النوع أغضب لكرامتي وأمتنع عن زيارته وأقاطعه وتستجيب زوجتي لرغبتي کارهة مراعاة لمشاعري ولتألمها لحالي، لكنه لا يدعنا في حالنا فبعد فترة يأتي لزيارتنا طالبا منا الصفح والغفران، فيرق له قلبي وقلب زوجتي التي تسارع إلى الصفح عنه قائلة لي: اعذرني ليس لي إلا أبي .. وهي معذورة فعلا لأن أمها متوفاة وباقي أشقائها هاجروا للخارج من "أفعاله" وهو يفرض علينا "بالعافية" صلحه سواء بالإقناع أو بالضغط والتشهير ويسبب لنا حالة من الإرباك النفسي، والأسرى نحن في غنى عنها إذ يستعدي علينا الأسرة حتى إخوتي الذين أبدوا أمامهم ساعتها قاسيا لأني أقاطع الرجل بلا سبب ظاهر رغم حرصه على أن يصل ما بيني وبينه في حين أبدو أنا "مفتريا" لا أريد صداقته! وطبعا هم معذورون لأني لا أقول لأحد ماذا يصنع معي لأني لا أريد أن يعرف أحد ما يحدث منه معي حرصا على كرامتي.

 

والحق أني لم أكن أريد أن أصدع رأسك بهذه الهموم التي قد تبدو صغيرة.. لكنها حالة أعيشها بالفعل وأتعذب بها خصوصا أن كل ذلك يحدث وأنا أواجه الحياة بلا عمل في حين تعمل زوجتي وتخرج لعملها كل يوم.. وأبقى أنا بلا عمل، فماذا أفعل هل أعد البيت أو اكتفى بتوصيل الأولاد للمدرسة ولي ثلاث طفلات كبراهن في السنة الثانية الابتدائية و صغراهن عمرها سنة ونصف السنة ومازالت ترضع من أمها!

 لقد حاولت أن أزيد من إمكانياتي فحصلت على بكالوريوس التجارة سنة 1980 في المحاسبة وعلى نفس البكالوريوس في إدارة الأعمال في السنة التالية لها.. وحاولت جاهدا البحث عن عمل ملائم لي.. في مجال الوظائف فكنت أواجه كل مرة بالاعتذار.. من أصحاب الأعمال لأنهم يتحرجون من تشغيلی وإصدار الأوامر لي بالرغم من أني أرغب في ذلك لأن العمل عبادة ولأني كبرت خلال هذه الفترة القصيرة حوالي عشرين سنة وأبيض شعري وتوترت أعصابي وفكرت في العمل بالتجارة، لكني وجدتها تحتاج إلى إمكانيات وخبرة ليست لي.

 

 وأنا الآن أفكر كل يوم كيف سأمضى اليوم التالي.. وأين أجد مكانا أمينا أختفي فيه كل يوم 6 ساعات من الصباح حتى الظهر ثم أعود إلى البيت كأني عائد من العمل، وأنا أدعي كذبا أمام الجيران وأمام من يسألني أو يسأل زوجتي، إنني أعمل محاسبا بعد ترکي الخدمة.



 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

وأجيب عن تساؤل كاتب هذه الرسالة: أقول لك يا سيدي على الفور ما قاله شكسبير من أن الدنيا مسرح كبير، وأن مسرحها يشهد أحيانا روایات تراجيدية.. وأحيانا روايات كوميدية.. وأحيانا أخرى روایات تراجيدية كوميدية، كما أقول لك إن قصتك من النوع الأخير بكل أسف فهي صورة غريبة للحياة .. فيها "المأساة" وهي آلامك وعذابك وإحساسك بفقدان الدور والاعتبار وفيها "الملهاة" بكل أسف وهو موقف هذا الصهر العابث منك.. وإن كان عبثه ساديا لأنه يؤذي النفس والشعور، وأشد الداء ما يؤلم النفس قبل الجسد.. والحق إنني أقدر آلامك النفسية وأفهم رغبتك العادلة في أن تجد لحياتك معنى، لكني قد أهمس في أذنك ببعض ملاحظات على هامش رسالتك لعلك تتقبلها بصدر رحب:

 

 إن مشكلتك یا سیدي هی نموذج لمشاكل كثيرين في الحياة لا يتقبلون نفسيا بسهولة ما تأتي به الأقدار .. أو ما يقتضيه الوصول إلى مرحلة معينة من العمر، وهؤلاء ينسون حقيقة أساسية من حقائق الحياة .. هي أن لكل رحلة بداية ونهاية.. وأن لكل إنسان في حياته العملية منحنی صاعدا وهابطا إلى النهاية المحتومة وهي اعتزال المنصب أو الوظيفة المرموقة ذات يوم، |والعقلاء من يؤهلون أنفسهم نفسيا لتقبل هذه الحقيقة لكن بعضنا تعميه الدنيا أحيانا عن إدراك هذه الحقيقية الأساسية ويتصرفون وهم في مواقع العمل والنفوذ، وكأن كل شيء سوف يدوم إلى الأبد فيتعجرفون أو يضعون ألقابهم وأسماء مناصبهم فوق رؤوسهم كأنها تيجان لا تهوى.. ولابد أن ينتج عن هذا التصور غير السليم أخطاء في السلوك أبسطها خطأ الترفع واعتبار الإنسان لنفسه نوعا مميزا من البشر! وهذا هو أبشع أخطاء التفكير البشري!.. فالناس جميعا أمام الله سواسية والتكبر أصلا خطيئة ترقى في رأيي المتواضع إلى ما يشبه الكفر، لأنه اجتراء على مقام الخالق.. المتكبر وحده الذي يحق له ذلك أما من عداه فدلني على شيء واحد يعطي للإنسان الضعيف الحق في أن يتعالى على غيره وأن يتصور أنه أفضل منه.. المال؟

 إن المال يشترك فيه الشرفاء.. وتجار المخدرات والمهربون والمرتشون والقوادون فأي فضل فيه لأحد؟ المنصب؟ لو دام لأحد لما وصل إلى أحد غيره وهذا شيء طبيعي .. الصحة؟ إن أحقر فيروس في العالم وهو فيروس الانفلونزا يمكن أن يطرح إنسانا في قوة هرقل في الفراش بلا حراك لمدة 10 أو ۲۰ يوما، يحسد خلالها القطة على صحتها! شجرة العائلة الكريمة؟ كلكم لأدم وآدم من تراب ! فأي فضل لتراب يداس بالأقدام ؟

 

العلم والتفوق العلمي والموهبة مثلا؟ إن أعظم العلماء والموهوبين الحقيقيين هم أكثر الناس تواضعا لأن الإنسان كلما ازداد "علما" ازداد "معرفة" بحقائق الحياة.. فإذا اختصه الله بها فليكن أكثر الناس شكرا له وعرفانا.. ماذا يبقى إذن للتفاضل بين الناس؟ يبقى خلقه ودينه وحبه للآخرين وحبهم له ولشخصه هو لا لمنصبه، وهذه كلها لا فضل فيها لمنصب ولا لنفوذ.. فإذا تغيرت الدنيا لم يعدم الإنسان من يقدر فيه خلقه وحسن تعامله مع الآخرين وبالتالي لا يفقد الإنسان أهميته في أسرته ولا مجتمعه الصغير حين يفقد منصبه!

 

إنني أرجوا ألا تفهم من هذا الكلام أنني أتهمك بشيء أو ألومك على شيء.. لكننا اتفقنا منذ البداية - أقصد أصدقاء بريد الجمعة وأنا ۔ على أن ما ينشر في هذا الباب من رسائل هو للاعتبار ولإثراء خبرتنا بالحياة ومحاولة الاستفادة بدروس التجربة التي تعرضها الرسائل ولقد كان من تداعي المعاني أن أشير إلى ما أشرت إليه.

أما صهرك العابث فإني لا أرى مبررا لاحتمال كل هذا العذاب معه وأفضل مواجهته بما يصنع وبما يقول.. كما أفضل أن تصارح إخوتك وأهلك عند توسطهم له عندك.. بما يفعل وبما يؤذي مشاعرك، ولا أری أبدا مبررا للخجل في هذا المجال فيما يجرى إنما يسئ إليه هو ولا يسئ إليك، وهو ينبغي أن يخجل مما يفعل وليس أنت.

 لذلك أنصحك أن تكون حازما معه بلا عدوان عليه إذا عاد للإساءة إليك.. فإذا لم يكف أذاه عنك فلتقاطعه أنت وحدك.. لكنه من

الإنسانية أن تسمح لزوجتك وهي ابنته الوحيدة بزيارته وحدها من حين إلى آخر.

 

وأما مشكلة العمل فإني لو تلقیت استجابة مناسبة لك فسوف أبعث بها إليك سعيدا في مدينتك الزقازيق.. وإن كنت أفضل أن تستغل طاقتك في أي مجال للخدمة العامة إلى أن يأتي العمل وبعد أن تجده أيضا إن شاء الله .. وبهذه المناسبة لقد كنت على وشك أن ألومك على قبولك العمل مع "انفتاحي" مظهري لا يحتاج إلى جهودك فعلا وإنما يحتاج إلى "شاسيه" فخم المنظر يسير وراءه ليرضي به عقده أمام أقرانه من المعلمين خاصة إذا كان هذا "الشاسيه" من حملة الألقاب السابقة، لكني تذكرت أنك لم تحتمل ذلك وتركت هذا العمل فشكرت لك ذلك وحمدته لك!.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 

1

 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات