بیت النار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

بیت النار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


بیت النار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993


هذا هو ثالث خطاب أكتبه إليك ولا أجد في نفسي الشجاعة لإرساله وقد سبق لي أن أردت منذ سبع سنوات أن أكتب إليك وأنا طالبة بإحدى الكليات لأشكو لك من حياتنا وما نعانيه أنا وشقيقي الطالب الجامعي وقتها .. في بيت النار .. الذي نعيش فيه مع أبي وأمي .. فقد كانت حياتنا فيه شعلة مستمرة من لهب الشجار والعراك بين أمي الموظفة التربوية وأبي الموظف الحكومي .. شعلة تسمع فيها طقطقة الخشب حين يحترق ويرتفع فيها "الشبشب" أحيانا .. ويعلو فيها الصوت بأقذع الألفاظ دائما إلى جانب الفضيحة التي تجلجل كل بضعة أيام في العمارة ، مما كان يخزينا ويخجلنا ويسبب لي أنا وشقيقي ألما نفسيا بالغا ، وقد بلغ هذا الألم قمته ذات مرة حين ترك أبي البيت بعد أحد هذه الصدامات العنيفة وضغطت علي أمي ضغطا شديدا وأنا تلميذة صغيرة بالمدرسة الثانوية للذهاب معها إلى قسم الشرطة لتحرر محضرا ضد أبي وتستشهد بي فيه على أنه ضربها ، وذهبت مكرهة ، ووقفت أمام مساعد الشرطة وراحت أمي تستنطقني .. والكلمات تتجمد في

فمي ولا تريد أن تخرج حتى أشفق علي مساعد الشرطة ونهر أمي قائلا لها: حرام عليك ما تفعلين يا سيدتي ، إن ابنتك .. بنت طيبة ولا تريد أن تشهد على أبيها .. فسوي الموضوع بعيدا عن الشرطة .

 

وخرجت من القسم باكية وأمي تلومني على خذلاني لها وبسبب هذه المعاناة المستمرة ، كانت تأتيني نوبات من الانتفاضات والتشنجات العصبية وأنا نائمة لا اعرف بها إلا حين تخبرني عنها أمي في صباح اليوم التالي لأنها كانت تنام معي منذ فترة طويلة هاجرة فراش أبي ، وقد استمرت هذه الانتفاضات تطاردني عدة سنوات بعد ذلك .

وفي مثل هذا الجو الكثيب عشنا سنوات الصبا وأوائل الشباب وبدلا من أن نستمتع بأجمل فترات العمر .. تجرعنا فيها كل ألوان المعاناة ، وكلا انفرد بی أبي حكى لي عن مأساته مع أمي التي أضاع معها زهرة عمره وكلما انفردت بی أمي حكت لي عن مأساتها مع أبي الذي خدعها وأخذ شقاء عمرها كما تقول ، ويطلب مني أبي التوسط لدى أمي وتطلب مني أمي التوسط لدى أبي وكذلك يفعلان مع أخي .. ونقف نحن عاجزين ومحبطين بينهما .

 

وفي السنة الأخيرة من دراسة أخي الجامعية تعرف على فتاة وأحبها ووجد في حبه لها مهربا من جو البيت الثقيل ، وبدأ يخرج معها ويشرکني معه في نزهاتها ليخفف عني ، ثم تخرج في كليته وعمل في مدينة نائية يقيم بها ثلاثة أسابيع من الشهر ثم يأتي ليقيم معنا أسبوعا واحدا ، وأحسست لغيابه عنى بفراغ موحش ووحدة قاتلة ، فقد كان سلواي الوحيدة وشريكي الأوحد في المعاناة .. وكم وقفنا متجاورين في جانب من الغرفة نرتجف من الخوف والألم ونحن نشهد معركة جديدة بين أبوينا منذ سن الطفولة .

 

 ثم تخرجت في كلیتي وعقد أخي قرانه على فتاته ورحل معها للعمل في إحدى الدول العربية وسعد بالتخلص من المعاناة ، وبقيت وحدي في بيتنا الكئيب أحاول أن أشغل فراغی بشيء مفيد والتحقت بدراسة حرة بإحدى الكليات ، وفي هذه الأثناء تقدم إلي شاب يعمل بالخارج وعائد في إجازة لكي يبحث عن نصفه الآخر ويخطب ويعقد قرانه في نفس الأجازة ، ولم أتحمس للفكرة من البداية ، لكن أمي نزلت فوقي بثقلها وضغطها لأوافق عليه لأنه عريس جاهز ولا يعيبه شيء ، ولست أنكر أنني أعجبت به کشخص ، ولكن حافزي الأول لقبوله كان أنه يعمل في دولة عربية وسوف اهرب معه من بيت الشقاء الذي أعيش فيه وهكذا وافقت على الارتباط به بلا حماس ، ولست أدري حتى الآن كيف خطبت له وعقد قراني عليه وتزوجت خلال أسبوعين فقط ، وبعد الزفاف المتعجل سافرنا إلى أحد الشواطئ في رحلة شهر العسل .. فكانت أيامه أتعس أيام حياتي .. وفي الفندق الذي أقمنا به کنت أنظر أحيانا إلى زوجي وهو نائم إلى جواري في الفراش وأتعجب من نفسي وأتساءل من هذا الرجل ؟.. ولماذا تزوجته ولماذا فعلت ما فعلت ، إلى حد أني فكرت أكثر من مرة أن أحمل حقيبتي وأتسلل وحدي عائدة للقاهرة ، لكن هيهات أن أفعل ذلك وقد وقعت الفأس في الرأس كما يقولون .. ولم يبق أمامي إلا استكمال المشوار الذي بدأته باختیاري ، وانتهت أجازة العسل وعدنا للقاهرة وسافر زوجي إلى عمله .. وانتظرت أن يستدعيني إليه وعاد أخي في أجازته ففوجیء بزواجي وتعجب له وانفرد بی يسألني هل أرغمني أحد على هذا الزواج  ؟

فنفيت له ذلك .. لكنه فهم دوافعي وتمنى لي السعادة .. وأرسل زوجي يستدعيني إليه وسافرت وتخلصت من بيت الأحزان الذي عشت فيه سنوات عمري الضائعة ، وكل أملي أن أحيا حياة هادئة مريحة .. ووجدت زوجي إنسانا طيبا لا يدخر وسعا في إسعادي وتخلصت بعد شهور من الزواج من الانتفاضات العصبية أثناء النوم ، وبعد عامين أنجبنا طفلتنا الوحيدة الجميلة ، ورغم ذلك كان المفروض أن يعمق مجيء الطفلة الروابط بيننا .. لكن ما حدث كان العكس .. فقد أحسست بأن هناك فجوة بيني وبين زوجي تتسع يوما بعد يوم .

 

فأنا للأسف لم أحبه رغم احترامي له وتقديري لأخلاقه وأحس كذلك بأنه لم يحبني رغم حرصه على علاقتنا لأنه لم ينطق بكلمة واحدة يعبر لي بها عن حبه لي منذ زواجنا ويتعلل في ذلك بأنه لا يعرف هذا النوع من الكلام وأنه يعبر عن مشاعره بالأفعال لا بالأقوال ، ولم يكن من المعقول أن أهدم بيتي لسبب تافه کهذا ، فواصلت الحياة معه ، لكنه حدث بعد ذلك ونحن في أجازة بمصر ما أشعرني بأنه لم يثق في حتى الآن ثقة كاملة من الناحية المادية ، فغضبت جدا وصممت على عدم العودة إليه بعد سفره لعمله .. ثم تراجعت عن تصمیمي وسافرت إليه وفي نيتي أن أختبر مشاعري تجاهه .



 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 الإنسان لا يتزوج یا سیدتي لكي يتقدم خطوات إلى الأمام أو إلى الخلف وإنما لكي يسكن إلى شريك يطمئن به جانبه ويشاركه أفراح الحياة وأشجانها .. وأكبر خطأ يرتكبه في حق نفسه هو أن يرتبط بإنسان لغير سبب سوی دافع الهروب من مشكلة عجز عن مواجهتها أو تحملها ، وهذا ما فعلت بنفسك للأسف حين قبلت من طرق بابك مدفوعا بآماله المشروعة في السعادة ، لمجرد رغبتك في التخلص من حياتك في بيت النار الذي يتلظى كل يوم بلهب الشجار والشقاق .

 لكن الإنسان من ناحية أخرى مسئول دائما عن اختياراته وأفعاله ، وليس من الشجاعة أن ينكص عن تحمل تبعاتها ، أو أن يرضى للآخرين بأن يدفعوا نيابة عنه ثمنها .

 

 ولقد كانت مقدمات زواجك خاطئة بكل تأكيد ، لكن النتائج لم تخرج بعد عن دائرة السيطرة والتصحيح ، ومشكلتك الأساسية هي أنك قد تزوجت عن غير اقتناع کامل بزوجك .. وفي تعجل لم يسمح لبذرة القبول النفسي بالزواج بأن تنمو تدريجيا فتثمر زهرة الحب في موعدها الربيعي . ثم ساعدت طبيعة زوجك المتحفظة على بطء هذا النمو أو إيقافه ، وأنت تقولين أنك لم تتقدمي في حياتك خطوات إلى الأمام بهذا الزواج لكني اختلف معك في ذلك رغم اعتراضي على الفكرة من أساسها ، فلقد قطعت خطوات لا يمكن إنكارها إلى "الأمام"  فغادرت بهذا الزواج بيت الجحيم الذي كنت تعيشين فيه وتخلصت من الانتفاضات التشنجية التي كانت تزعجك وأنجبت طفلة جميلة تستمتعين برعايتها .. وستعملين جاهدة على أن تجنبيها ما قاسيت أنت منه بين أبويك وتعيشين حياة هادئة بلا نزاع ولا شقاق مع زوجك الطيب الذي لا يدخر جهدا لإسعادك وحالتك الصحية والاجتماعية والمادية طيبة .. وطفلتك طبيعية وليست عليلة معاقة والحمد لله .. "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها".


 فكيف لا يكون كل ذلك خطوات إلى السعادة بإذن الله ؟ حتى ما رويته لي عن المسألة المادية التي حذفتها من رسالتك لا يستحق منك هذه المغالاة في الغضب ولا في الاستنتاج منها أنه لا يثق فيك من الناحية المادية ، فهي شأن تافه لا يستحق الاعتبار وليست دليلا أبدا على ما توصلت إليه من نتائج ، ثم إنها من حقه أولا وأخيرا وفيما عدا ذلك فهو لا يقصر في حقوقك ولا ينى عن محاولة إسعادك ويتحمل صابرا تهربك منه ، مع ما في ذلك من جرح لمشاعره كزوج وكإنسان .. ومع كل ذلك فإن مشاعرك تجاهه ليست في النهاية عدائية ولا مشاعر کراهية ، وإنما مشاعر حيادية فقط لأن شرارة الحب لم تولد بعد في قلبك تجاهه .. وهذا شيء طبيعي لأنه يندر أن يكره الإنسان السوي "الآخر" الذي يحبه ويحسن معاشرته حتى ولو لم يستجب لمشاعره العاطفية .

 

وقد ذكرني ذلك بما قرأته في رسالة لقارئ فاضل من أن المحبة لا يمكن أن تكون عاقرا أبدا لأنها إن لم تلد محبة فهي تلد خجلا تجاه من يحمل لنا تلك المحبة . وهذا هو حالك مع زوجك الآن أو ما ينبغي أن يكون عليه حالك معه .

وإذا كنت تشكين من فتور حياتك وخلوها من لذع الحب .. فتذكري أن هناك من فرضت عليهم ظروفهم عشرة من يحتملون منهم كل ألوان المعاناة ومع ذلك فهم يمضون في الحياة طاوين أجنحتهم على تعاستهم ويحتسبون شقاءهم ومعاناتهم عند من لا تضيع عنده الأجور . وما حال أبويك رغم اعتراضي على أسلوبهما بعيد ، فقارني حياتك بحياة هؤلاء ، وستجدين أن الأقدار قد ترفقت بك كثيرا ، وتذكري دائما أن من واجبك أن تعطي زوجك وطفلته فرصتهما العادلة في السعادة والحياة الخالية من الآلام وسوف تشاركينهما سعادتهما كاملة ، حين يأذن الله لشرارة الحب بأن تولد في قلبك .. أو حين تتوافقين مع أوضاعك وترضين عنها في جملتها وتتجاوزين عما ينقصها .. وأي الناس قد اكتملت له كل أسباب السعادة !؟

إن الكارثة الحقيقية ليست في فتور حياتك إذ ما أهون هذه المشكلة بالقياس إلى آلام الحياة الأخرى ، وإنما في منبت الشقاء الذي ولدت فيه وعشت زهرة عمرك ، فلقد أجرم أبواك في حقك أنت وشقيقك بإشراكك معهما في مشكلتهما الشخصية فبذرا بذور الاكتئاب في نفسيكما وأثرا من حيث لا يحتسبان في قدرتنا على الاستمتاع بالحياة وإدراك قيمة الأشياء والأهداف والمعاني .. وهذه هي جناية بعض الآباء والأمهات الذين لا يتجملون أمام أبنائهم ولا يستخفون بنزاعاتهم ومعاركهم وفضائحهم عن الأبناء .. ولا يعفونهم من معاناتها معهم كأنما يعز عليهم ألا يقاسوها وحدهم غير مدركين عمق الآثار النفسية التي تترسخ في أعماقهم وتؤثر في تكوينهم النفسي وفي تصوراتهم وأفكارهم عن الزواج والسعادة والحياة ، إنك ضحية الأنانية أبويك فحاذري أن تكرري القصة وتصنعي ضحية جديدة لنفس الجريمة هي طفلتك لأن من تعرض للظلم هو أقدر الناس على الإحساس بمشاعر الضحايا وأبعدهم عن أن يظلم الأبرياء بمعاناته واختياراته من بعده .

 

أما زوجك فنصيحتي الوحيدة له هي أن يواصل الصبر عليك إلى أن تتفتح له مسامك في وقت قريب وأن يحاول الاقتراب منك ويرخي العنان للسانه ليعبر بالكلمات عن مشاعره تجاهك إلى جانب الأفعال فهذه اللفتات الصغيرة ترضي النفوس وتؤلف بين القلوب .. وتقرب الشركاء ولا يجوز لرجل أو امرأة أن يتحفظا فيها .. فلقد كان الرسول الكريم لا يتحفظ في التعبير عن مشاعره القلبية تجاه السيدة عائشة ، ولا يرى في ذلك عيبا ، وروي عن عمر بن الخطاب وهو المعروف بشدته وجديته قوله : ينبغي للرجل أن يكون في أهله "أي مع زوجته" ، كالصبي أي في الأنس والبساطة فإذا كان في القوم كان رجلا !.

وكان الإمام الشافعي يمازح زوجة له فيقول متشکيا : ومن البلية أن تحبه ، فلا يحبك من تحبه ! فتجيب عليه زوجته ببيت شعر مماثل فيه على غزله بدعابة مماثلة .. والاهتمام بهذه اللفتات الصغيرة .. يرقق القلوب الجافية ويفتح فيها الثغرات التي يتسلل منها الحب ، ولقد روي قاضی أمريكي نظر آلافا من قضايا الطلاق أن معظم الحالات التي نظرها قد بدأت بإهمال اللفتات الصغيرة كنسيان الزوجة أن تودع زوجها وهو خارج إلى عمله بكلمة وداع طيبة أو نسيان الزوج مناسبات الزوجة الخاصة أو إهماله التعبير عن مشاعره تجاهها .

 

فواصلي المحاولة مع زوجك .. وانظري إليه بعين جديدة منصفة تضع سعادته كإنسان اخترته بملء إرادتك أيضا وسعادة طفلتك في الاعتبار ، فلقد حسم مجيء الطفلة الأمر ولم يعد هناك مجال للاختیار أو الوقوف طويلا أمام الاعتبارات العاطفية واستعيني بالطبيب النفسي على التخلص من الرواسب الاكتئابية التي مازالت مستقرة في أعماقك من سكنى بیت النار ، وإذکري نعمة الله التي أنعمها عليك وعندها سوف تتغير أشياء كثيرة في روحك وأعماقك .. وسوف تقتربين من السعادة والرشاد بإذن الله .

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أغسطس عام 1993

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات