رباط الدم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997
أليس من المحزن حقا هو أن يتعامى الآخرون عن قيمة الموجود ، حتى يفقدوه ، ثم يبدأ نواحهم عليه وافتقادهم له بعد فوات الأوان ؟.
فلماذا لا
ندرك "روعة" الحياة إلا حين يدهمنا المرض ، ولا "روعة"
الأحباء إلا حين يفارقوننا ؟
عبد الوهاب مطاوع
أكتب لك هذه
الرسالة ؛ لأرد بها على رسالة الزوج ، الذي يشكو من أن زوجته تعايره بمرضه .. ولكي
أروى لزوجته هذه قصتي ، وأقول لها إن الزوج عفة وستر للزوجة ، وأنها بغيره لا تقوى
على مواجهة الحياة ولو كان مريضا ؛ فلقد كنت أعيش مع زوجي في قمة السعادة ،
وتزوجنا لمدة تسع سنين سعيدة ، كانت منها ثلاث سنوات اغترب عني خلالها في دولة
خليجية .. وكنت أنتظر عودته كل سنة بلهفة ، وأعد الأيام انتظارا لها ، وكان
زوجي إنسانا طيبا كله شباب وحيوية .. ولكنه رجع إلينا من الغربة للأسف مريضا
بالالتهاب الكبدي الفيروسي النشيط اللعين ؛ نتيجة خلع ضرس في الغربة ، بغير
احتياطات ضد العدوى .
وجاء زوجي
فوجدته ذابلا عليلا ، وقضيت فترة الإجازة معه ، ننتقل بين معهد الكبد بالمنوفية ،
وبين أطباء القاهرة ومعامل التحاليل ، وضاع شقاء الغربة في العيادات والمعامل .
وفي النهاية
قرر له الأطباء العلاج بحقن الانترفيرون باهظة الثمن ، وكان مطلوبا له 60 حقنة مبدئيا ، فنصحت زوجي بالعودة مرة أخرى إلى الغربة ، لكي نستطيع
شراء هذه الحقن الباهظة ، ورجع بالفعل ولكنه لم يعد إلينا بالشفاء کما رجوت ،
وإنما بمضاعفات المرض الشديدة، ولأن زوجی هو النعمة التي تظلل حياتنا؛ فلقد حاولت
أن أحارب مرضه بكل ما استطيع من قوة ، ولم أبخل عليه بما في يدي ..
فكانت لدي
قطعة أرض صغيرة ، بعتها بمبلغ أربعة آلاف جنيه ، وكانت لدي سيارة أجرة مستهلكة
وتالفة فبعتها بـ 4700 جنيه ، ولم أجد الحقن
المطلوبة إلا لدى شخص يعمل بعيادة أحد كبار الأطباء ، ويتاجر فيها ، فاشتريتها بـ 8250 جنيها ، وقدمتها لزوجي الحبيب ..
ومع ذلك فلقد
تدهورت صحته سريعا ، وبدأ الأطباء يطالبوننا بتوفير بلازما الدم له ؛ فأعطيت لزوجي
کيسين منها خلال 6 شهور .. وحل به قضاء الله ودمي يسري في عروقه ، وعمره لا يتجاوز
34 عاما ، وزالت عني النعمة التي لم أتمتع بها سوى تسع سنوات فقط ، وذهب زوجي إلى
لقاء ربه ، وترك لي 3 أطفال صغار ، ومعاشا لا يتجاوز 48 جنيها .
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
أليس من
المحزن حقا ألا يقدر كثير من البشر قيمة شركائهم في الحياة، إلا حين يدهمهم القدر
بحرمانهم منهم؟
لقد عرفت أنت
يا سيدتي بفطرتك السليمة قيمة ما كان بين يديك ، قبل أن يغيب عنك وتشبثت به ،
وقدمت القرابين إليه ؛ حتى ليرحل زوجك عن الحياة ؛ ودماؤك تسري في عروقه ، ولكن
المحزن حقا هو أن يتعامى الآخرون عن قيمة الموجود ، حتى يفقدوه ، ثم يبدأ نواحهم
عليه وافتقادهم له بعد فوات الأوان .
ولقد تساءلت
الطفلة في رواية «عالم صوفيا» للكاتب النرويجي یوستن جاردنر ، التي ترجمها باقتدار
الأستاذ أحمد لطفي : أليس من الظلم أن يموت الإنسان ؟ ثم راحت تتأمل الفكرة ، فما
إن تقبلت فكرة الموت .. حتى شعرت أكثر من أي وقت مضى أي نعمة كبرى ، تنعم بها؛ إذ
تتردد فيها أنفاس الحياة !
فالحياة تحيل
إلى الموت ، والموت يحيل إلى الحياة ، وما كنا لنشعر ذات يوم بقيمة الحياة ، إن لم
نفكر أيضا في أننا سنموت في يوم من الأيام ، ولا نملك ونحن نفكر في الموت إلا أن
يعترينا الشعور بروعة هذه المعجزة الإلهية ، وهي معجزة أننا ننعم بالحياة ، ولهذا
فقد كانت صادقة كل الصدق ، تلك الجدة العجوز ؛ التي أنبأها الطبيب في الرواية
نفسها .. أنها مريضة مرض الموت ، فقالت له :
الآن فقط أدرك
روعة الحياة وجمالها !
فلماذا يا
سيدتي لا ندرك "روعة" الحياة إلا حين يدهمنا المرض ، ولا "روعة"
الأحباء إلا حين يفارقوننا ، ولماذا تحتاج مثل هذه الزوجة ، التي تعير زوجها بمرضه
، لأن تروي سيدة مثلك لها تجربتك مع الحياة ، بعد أن فقدت الزوج والسند والحنان ؟.
لقد أدركت يا
سيدتي "روعة" الموجود ، رغم بساطته وسعدت به .. وحاربت للدفاع عنه
وحمايته من الأخطار الداهمة ، إلى أن غلبتك أقدارك ، فإذا كانت سعادتك مع زوجك
الراحل قصيرة ، فعزاؤك أنها
كانت أيضا
حقيقية وصادقة .. وبعض سلواك عنها في أن زوجك إنما يتواصل في أبنائه الذين
ستواصلين العطاء لهم ، حتى يصلوا معك إلى بر الأمان .
وإذا كانت الصحة قد خانتك وحرمتك من مواصلة الكفاح لتوفير الحياة الكريمة لأبنائك الصغار، فلم تذهب الحيلة بعد .. وهناك من الأعمال البسيطة ما تستطيعين ممارستها بلا عناء في بيتك ، وبحيث تضمن لك حياة آمنة كريمة بإذن الله وأرجو أن تقرأ زوجة كاتب الرسالة الأولى وكل زوجة أو زوج في مثل موقفها رسالتك هذه مرارا وتكرارا ، وأن تتفهم معانيها ودروسها ، قبل فوات الأوان .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر