شاطئ الأمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
إن الإنسان لا يسعد أبدا بالإقدام على فعل الأشياء التي يعرف في قرارة نفسه أنها غير صائبة ولهذا فقد كان أبو الفلاسفة سقراط يقول إن من يعرف الحق لن يقدم على الباطل .. لأن الإنسان يطلب لنفسه السعادة دائما ولن يسعد أبدا بارتكاب ما يعرف تماما أنه خاطىء وباطل ، وإنه مهما أبحر في بحر الخطيئة والظلام .. فلابد أن يطلب سلام النفس بالعودة إلى شاطیء الحق والصواب .
عبد الوهاب مطاوع
أكتب إليك بعد
أن قرأت رسالة "الرد الجريء" للأم التي تشكو لك من ابنتها التلميذة التي
تسرق الأشياء في المدرسة ، وسرقت مبلغا من المال من دولاب ملابسها وأنفقته على
صديقاتها ، ولقد شرحت لها في ردك عليها الدوافع النفسية لهوس السرقة عند الصغار ،
والذي قد يستمر معهم في مراحل أخرى من العمر ، إذا لم يعالج في الوقت المناسب ،
وأوضحت لها طرق العلاج ، لكني أريد أن أضيف إلى ما قلته لها إضافة أخرى قد لا
يستطيع غيري أن يقدمها لها لأنني قمت أنا نفسي بما قامت به هذه الفتاة الصغيرة في
نفس هذه السن تقريبا فإذا كانت الفتاة الصغيرة قد اعترفت لأمها بما فعلت ، فلن
أقول إنها قد فعلت ذلك بكل جرأة - كما قالت لك أمها في رسالتها - وإنما أقول إنها
قد فعلت ذلك نادمة، على عكس ما فعلت أنا حيث لم أعترف أبدا بجرم وإنما كذبت وأنكرت
ولازمني داء الكذب في هذه المرحلة من عمري فسرقت أكثر من مرة ، وكذبت وكنت أكذب
بمناسبة وبغير مناسبة ، وعندما اكتشف أبي الأمر هوي على جسدي النحيف بالضرب العنيف
، في حين احتضنتني أمي بين ذراعيها ، وانهالت علي بالمواعظ الدينية.
وصدقني يا سيدي إنه لا ضرب أبي العنيف لي ، ولا
مواعظ أمي الحانية قد أفلحت في تغيير حالي ، فلقد كنت أشعر وقتها بالرغبة في أن
أسرق ، ولا أستطيع أن أحدد سببا واضحا لذلك ، لكني سأذكر الآن بضعة أمور أظن أنها
كانت وراء هذا السلوك المعيب ، وقد وجدت في تحليلك للدوافع النفسية لمثل هذه
السرقة بعض أصدائها في
طفولتي ، فلقد
كنت في هذه السن أتطلع لأن امتلك أشياء تخصني وحدي ولا يستعملها أحد غيري كفرشاة
أسنان ، أو منديل أو قلم ، وكان أبي يلبي دائما مثل هذه الحاجات لأخي الذي يكبرني
ولا يلبيها لي ، ربما بدعوى أنني أصغر من أن أحتاج إليها ولم أكره أبي لذلك أبدا
لكني كنت أحزن له ، وكنت في هذه المرحلة من العمر أنتظر العيد بفارغ الصبر من أجل "العيدية"
، فيعطيني أبي عيدية ضئيلة للغاية بالمقارنة بما يحصل عليه أصدقائي من آبائهم فكان
هؤلاء الأصدقاء يجلسون معا صباح يوم العيد ، ويخططون للاستمتاع بالعيد ، فأجد نفسي
عاجزا عن الاشتراك معهم في خططهم لأن " ميزانيتي" لا تؤهلني لذلك ، وأجد
نفسي محروما من مشاركتهم الصحبة واللعب ، وكان هذا هو دائما حال أبي معي فيما
يتعلق بالنقود ، فلقد كان يعطيني منها بميزان ، ربما لم يتم اختراعه بعد لدقته
المتناهية في "وزن" أصغر وحده نقدية في الوجود ، وفي صغري أيضا كنت أتوق
دائما لأن أخلق لنفسي مكانة مناسبة بين أفراد أسرتي ، كفرد له وجود محسوس وكيان ،
أي أنني كنت أريد إشعار أفراد أسرتي بأنني لست "عيلا" صغيرا ، وهو
الإحساس الذي لم يمنحه لي أبي أبدا وقتها ، وإنما كان يهملني ولا يناقشني في شيء،
ولا يحدثني كشخص أو إنسان له وجود وكيان ، ولا يتذكرني إلا إذا أراد مني شيئا من
نوع : هات كوبا من الماء ، أو ضع هذا الشيء هناك ، إلى آخره ، وباختصار فقد أهملني
أبي عاطفيا وعقليا ، ولم يمنحني الحب ولم يحترم عقلي ، حتى شعرت وقتها بأنه "كتلة
صلبة" لا مكان للمشاعر لديها.
أما أمي فقد
كانت ومازالت كالراهبة ، سلاحها في الحياة الموعظة الحسنة ، فكانت تقول لي دائما
كلاما كبيرا ، عن الجنة والنار وثواب الصادقين وعذاب المنحرفين ، ولم أكن أفهم
كلامها هذا لكنه كان رغم ذلك يرن في أذني رنينا غريبا ، وأتأثر به تأثرا غامضا.
ولقد تذكرت
الآن وأنا أكتب لك هذه الرسالة ، أن سرقتي الأولى قد حدثت حين طلب مني مدرسي تبرعا
صغيرا للمدرسة ورفض والدي أن يعطيني هذا التبرع .. في حين أصر عليه المدرس إصرارا
غريبا ،
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
"ولا
ينبئك مثل خبير" .. كما يقول الله تعالى ولهذا فلقد وجدت في رسالتك ما لم أجده
من قبل من التفسيرات النظرية لهوس السرقة في علم النفس ، مع أن المنابع مشتركة في
كل الأحوال.
ولعلك لو
راجعت أهم دوافعك النفسية والمادية للإقدام على فعل السرقة خلال طفولتك وصباك
لوجدت أنها تتركز في دافعين سبق أن أشرت إليهما في ردي على كاتبة الرسالة لكن رغم
ذلك تقدم له صورة أعمق لتأثيرهما عليك كصاحب تجربة سابقة في هذا المجال
أما الدافعان
فهما تلبية الاحتياجات المادية التي عجزت الطرق المشروعة عن تلبيتها لك بسبب نكوص
والدك عن توفيرها لك
وبسبب افتقادك
لامتلاك أشياء خاصة بك أتاح والدك لشقيقك امتلاكها دونك ، أما الدافع الآخر فهو
محاولة البحث عن "الإعزاز" المفتقد داخل الأسرة ، ومحاولة تعويضه وتعويض
إهمال الأب عاطفيا وعقليا للابن بالإقدام على فعل يؤكد به الطفل ذاته ، ويشعر
الآخرين بوجوده من خلاله أو بانتقامه منهم لتجاهلهم إياه أو سخريتهم منه ، وهو ما
عبرت أنت عنه تعبيرا تلقائيا صادقا بقولك إنك كنت تتوق دائما وأنت طفل لأن توجد
لنفسك "مكانة" لائقة بين أفراد الأسرة .
أما الكذب
الذي صاحب اقتراف فعل السرقة ، فأمر مفهوم لأنه الوجه الآخر للعملة دائما في كل
فعل أو سلوك يعرف فاعله جيدا أنه خاطىء ويكره أن يطلع عليه الآخرون .
ولعلك تلاحظ
أن إقلاعك عن السرقة والكذب في بداية التحاقك بالمرحلة الثانوية ، قد سبقه تحول
جوهري مهم في علاقة أبيك بك ، كما سبقه أيضا تحول وجداني مهم داخلك أنت ، فلقد بدأ
والدك فيما يبدو يستشعر خطورة الحرمان من الاحتياجات المادية الضرورية عليك ، فبسط
يده معك بعض الشيء ثم تجاوز ذلك إلى الإقدام على ما ينصح به علماء النفس في مثل
هذه الظروف ، وهو إشعار الابن بالمسئولية المادية ، وتدريبه على تحمل مسئولية
النقود وإدراك قيمتها، فتخلى عن ميزانه الحساس السابق في التعامل المادي معك ومنحك
مبالغ من المال تزيد على متطلباتك اليومية وأوصاك بالحفاظ عليها وعدم الإنفاق منها
إلا عند الضرورة .. فنمى بذلك لديك فكرة المسئولية المادية ، وفكرة الملكية الخاصة
التي لا تتخفى بها عن الآخرين لأنها من مصادر مشروعة، ووجدت نفسك مطالبا بحسن
التصرف فيما أصبحت تملكه من مال يخصك ، وأدركت تبعا لذلك أن والدك قد بدأ ينظر
إليك بعين الاعتبار ، كإنسان جدير بأن يتحمل المسئولية ، وليس مجرد طفل قاصر لا
يؤتمن على شيء .. فانتفي بذلك التجاهل العاطفي والعقلي لك وبدأ التعامل الجاد معك
، وأشعرك ذلك بالجدارة
والثقة فكففت عن فعل ما يتناقض مع هذه النظرة فضلا عن أن نموك العقلي والوجداني في
هذه المرحلة من العمر قد صاحبه بالضرورة نمو مماثل للضمير الأخلاقي في أعماقك .
وأبسط تعريف
للضمير هو أنه قدرة الإنسان على التمييز بين الحق والباطل ، وهو ملكة فطرية يتمتع
بها كل إنسان لكن التزام المرء بما تمليه عليه من تبعات يختلف من شخص لآخر.
وفي كل الظروف
والأحوال ، فإن الإنسان لا يسعد أبدا بالإقدام على فعل الأشياء التي يعرف في قرارة
نفسه أنها غير صائبة ولهذا فقد كان أبو الفلاسفة سقراط يقول إن من يعرف الحق لن
يقدم على الباطل .. لأن الإنسان يطلب لنفسه السعادة دائما ولن يسعد أبدا بارتكاب
ما يعرف تماما أنه خاطىء وباطل ، وإنه مهما أبحر في بحر الخطيئة والظلام .. فلابد
أن يطلب سلام النفس بالعودة إلى شاطیء الحق والصواب .
وإذا كنت تقول
إنه لا عقاب والدك البدني لك على السرقة ، ولا مواعظ والدتك الدينية لك قد أثمرا
ثمارهما في إقلاعك عن السرقة والكذب ، فالحق أنهما قد ساهما بقدر غیر منكور في ذلك
وأنهما قد فعلا فعلهما في أعماقك دون أن تشعر بذلك بطريقة مباشرة لأن التحول في
مثل هذه الحالة لا يتم بطريقة طفرية وإنما عبر تفاعلات بطيئة ومتدرجة داخل النفس ،
ولو لم يصاحب ذلك تغير معاملة الأب لك المادية وتغير نظرته إليك فلربما لم يكن لهذين
العاملين أثرهما الإيجابي عليك فيما بعد، وأوضح دلیل على ذلك هو ما كنت تشعر به من
تأثر غامض بما تحدثك به والدتك من ترغيب في جزاء الصالحين وترهيب بمصير الطالحين
رغم أنك لم تكن تفهم حديثها أو تستوعبه.
فشكرا لك على رسالتك المفيدة ، ورغبتك المخلصة في مساعدة الأم الحائرة كاتبة رسالة "الرد الجريء" على أمرها مع ابنتها ولعلها تجد فيها ما يطمئن خواطرها إلى قرب خلاص ابنتها من هذه الآفة اللعينة كما تخلصت أنت .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر