في منتصف الطريق .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
فكرت كثيرا
قبل أن أكتب إليك هذه الرسالة.. وأخيرا استجمعت شجاعتي رغم تحذيرات إخوتي لي من أن
ذلك سوف يسيء إلى مشاعر أسرتي.. لأن لنا كرامة نخشى عليها لكن الواقع المؤلم الذي
أعيشه يدفعني دفعا للتجاوز عن هذا الاعتبار.. فأنا طالب في السنة الثالثة بكلية
الطب.. ولي عدد من الإخوة كلهم يتعلمون في الكليات والمدارس .. ولقد بدأت قصتنا
حين أصر أبي الموظف الصغير على أن يعلمنا جميعا تعليما عاليا، ولم يستجب لما كان
ينصحه به شقيقه من أن يوجهنا إلى تعلم الحرف رحمة بنفسه .. لكن أبي واصل كفاحه لتعليمنا
وادخل ابنه الأكبر وهو أخي كلية الهندسة حين كان راتبه لا يتجاوز الثلاثين جنيها.. وكنا نحن
أطفالا في الابتدائي، فكان أبي يحرم نفسه ويحرمنا من الضروريات لكي يقدم لشقيقي ما
يحتاج إليه.. وكان يقترض من هذا ويقترض من ذلك ليشتري له أدوات الرسم الهندسي
والكتب وغيرها... إلى أن نجح أخي وتخرج وتوظف وانتظر أبي أن يحصل على ثمرة مجهوده
ليستمر في تعليمنا وليقطع معنا نفس المشوار. فلم يخيب أخي ظنه وأصبح يعطيه 60
جنيها كل شهر من راتبه ودخله.. لينفقها علينا وانتقل أخي من نجاح إلى نجاح في عمله، وخلال
سنوات معدودة كان راتبه ودخله قد بلغا 400 جنيه كل شهر وأصبحت له مدخرات في البنك.
واستعد أبي
ليجنى المزيد من الثمار مما يخفف عنه وعنا أعباء الحياة.. لكن شقيقي بدأ يخفض مبلغ
الإعانة الشهرية التي يعطيها
لأبي مع
اتجاهه لأن يبني لنفسه حياة مستقلة .. فقد خطب فتاة وتزوجها وأنفق على زواجه وعلى
إيجاد مسکن .. وهكذا أصبح المبلغ الشهري الذي يقدمه لأبي بعد الزواج عشرين جنيها
فقط لا غير!.
ورغم أن ذلك
قد يبدو منطقيا مع ظروف الزواج فإن أبي قد نقم على أخي ذلك ولم يغفره له أبدا،
وأصبح يقبل المبلغ الشهري الضئيل کارها ومکرها وساخطا ليصب علينا نحن جام العذاب!
وكان أبي يتمنى أن أصبح طبيبا لكي يستريح .. وبالفعل دخلت كلية الطب استجابة لرغبته وهي دراسة مكلفة كما تعلم ونجحت بتفوق حتى السنة الثالثة.. وكانت الحياة تمضي بصعوبة لكنها ماشية كما يقولون، حتى حدث ما حدث من أخي وسخط أبي عليه... فلقد أصبح يذكرني كل يوم بما فعله أخي الأكبر معه.. ويقول لي إنني سأفعل نفس الشيء معه، بعد أن أتخرج .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
إن شقيقك ليس السبب في معاناتكم
ولكنه أبوك وفكرته غير الصائبة عن الحياة والأبناء ومسئولياتنا تجاههم، لقد حرم
أبوك نفسه وعلم ابنه الأكبر حتى تخرج في كلية الهندسة، وهذا كفاح مجيد يستحق عليه
التحية والاحترام لكن ما حدث بعد ذلك ليس صائبا ولا حكيما من جانب أبيك، فلقد تصور
أنه بتعليمه لابنه قد أصبح يملکه ملكية كاملة، ويملك كل ما في يده فإذا أعطاه نصف
ما في يده فإنه يصبح مغتصبا للنصف الآخر! وإذا أعطاه ثلث ما في يده فقد اغتصب بذلك
لنفسه الثلثين وبذلك فهو مقصر وجاحد دائما ولم تثمر فيه التربية وهذا خطأ كبير يقع
فيه بعض الآباء تحت ضغط قسوة الحياة .. أو بسبب الجهل في أحيان أخرى.
فنحن لا نربي أبناءنا كمشروعات استثمارية لتدر
علينا دخلا كبيرا فيما بعد، فإن لم تحقق هذا الدخل المنتظر أصبحت مشروعات
"غير اقتصادية" أو مشروعات خاسرة لا تستحق ما أنفق عليها من مال وتعب
وحرمان فنحزن ونندب حظنا.. ونكف يدنا عن الإنفاق على باقي المشروعات الصغيرة التي
مازالت تحت الإنشاء.
إن هذا التصور
الخاطيء هو إهانة في حد ذاته لفكرة الأبوة.. وفكرة البنوة وفكرة الأمانة التي
أعطيت لنا من الخالق لنرعاها، فنحن نربي أبناءنا لأن هذا هو واجبنا أمام الله
تجاههم وتجاه الحياة من حولنا. فإذا أدينا الأمانة حق أدائها فلقد فزنا الفوز
المبين، وإن فشلنا فالله مطلع على القلوب، ويعلم ما في الصدور، وسوف يحاسبنا على
قدر مسئوليتنا عن هذا الفشل، ولو أدى كل أب أمانته بهذا الإحساس فإنه لن يصطدم
فيما أتصور ذات يوم بأية لمحة جحود أو إنكار من جانب أبنائه .. ذلك أن بذرة الجحود
يغرسها المن على الأبناء بما صنعنا لهم وبما فعلنا من أجلهم، ناسين أن ما فعلنا هو
أصلا واجبنا تجاههم وهو أصلا من صميم حقوقهم علينا.. وإننا كنا
سعداء بما نفعل لأننا نحقق به ذاتنا في أبنائنا، ونرى فيهم أنفسنا، لكن ذلك لا
يعني أبدا أن يتخلى الأبناء عن مساعدة آبائهم بل ولا أتصور أن ينشأ ابن نشأة سليمة
في ظل تربية صالحة ثم يتخلى حين يكبر عن أهله، أو عن واجبه تجاه أبيه وأشقائه، ولن
يحيا حياة سعيدة أبدا لو فعل .. وإنما يعني ذلك فقط ألا يسيء بعض الآباء فهم
مسئوليتهم عن أبنائهم فيمنون عليهم بكل نسمة هواء استنشقوها في مرحلة التعليم
ويطالبونهم بسداد ثمنها.. ويعني أيضا ألا ينظر بعضهم إلى ما يؤديه لهم الأبناء
نظرتهم إلى "الحق الناقص" مهما بلغ حجمه، إذ لا يجوز لنا أن نقيس
تضحياتنا من أجلهم بتضحياتهم من أجلنا لسبب بسيط هو أننا آباء مكلفون.. وهم أبناء وما أعطيناه لهم
كان واجبا علينا وسوف يردونه غالبا أضعافا مضاعفة لأبنائهم کما رددنا نحن غالبا
ديون آبائنا علينا إلى أبنائنا، وبقدر ما نرعی حقوق آبائنا سوف يرعى أبناؤنا
حقوقنا فإن جحدنا آباءنا لا يحق لنا أن ننتظر من أبنائنا أن يكونوا مثلا للوفاء
والبر بنا، وهذا هو سر الحياة وحكمة تواصل الأجيال فيها.
وفي رأيي أن
شقيقك هذا ليس ظالما لأبيه ولكم بالصورة التي تصورها على رسالتك ولا أصدق أنه
يتقاضى 400 جنيه وهو خريج
حدیث، وإن له
مدخرات في البنوك، وأتصور أن ذلك مبالغة من مبالغات أبيك.. فالحياة صعبة من حول
الجميع وأعتقد أن جريمته الأولى في نظر أبيك هو أنه بنى لنفسه حياة خاصة وتزوج في
منتصف الطريق، وكان الأولى به في رأي أبيك أن يكرس حياته لكم حتى تتخرج أنت على
الأقل، ثم يبني لنفسه حياته بعد ذلك، ولو فعل لكان ابنا مضحيا.. يستحق الاحترام
لكنه إن لم يفعل لا يصبح مجرما فليس كل الناس على استعداد لأن يكونوا ملائكة مضحين
من أجل الغير، وخيركم أعذركم للناس ولعله رأى العمر يمضى به ورغب في ألا يفوته
القطار، وقد يكون له بعض العذر في ذلك فقل له كل ذلك واطلب منه أن يتفهم أسباب
اضطرار شقيقك إلى تخفيض المبلغ الشهري بعد الزواج وأعبائه.. فلعله يرحمكم من لذعات
لسانه ومن تقريعكم..
دائما. وألف لعنة على واقعنا الأليم الذي يجعل من مثل هذه المشكلة موضوعا لرسالة
طويلة عريضة ومبلغ الأربعين جنيها التي اعتبرت دليلا على الجحود وأفسدت حياة أسرة
بأكملها يستنشقه آخرون في لحظة واحدة طلبا للمتعة .. أو يكسبه منادی سیارات في
موقف مزدحم في يوم واحد أو يومين.
ولله في خلقه شئون وعموما تفضل بزيارتي فلعل بريد الأهرام يستطيع أن يصلح بعض ما أفسدته وساوس أبيك وأفكاره.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر