الحب فوق البلاط
إلى متى تظلين تهربين من العمل بنفس الحجج السخيفة ثم تعودين خائبة من كل عمل تلحقين به بعد أيام؟
لست أتهرب من العمل .. ولكن
من "أشياء أخرى" تعرفينها جيداً .. وليس ذنبي أنني لا أصادف من أصحاب
الأعمال إلا من يطلبون "هذه الأشياء"
وماذا تفعل كل البنات
اللاتي يعملن فى كل مكان .. هل كلهن غير شريفات؟
لا شأن لي بغيري فلا تزيدي
من كربي أرجوك يا أمي.
قالت الجملة الأخيرة ثم
غادرتها في مجلسها التقليدي فوق الكنبة البلدية التي تتصدر صالة الشقة الكالحة,
ودخلت إلى غرفة مجاورة لباب المطرح وصوت أمها يتمتم فى ضيق:
عجائب!
وضعت حقيبة يدها
"الأثرية" فوق مائدة خشبية صغيرة وخلعت فستان الخروج القديم ووضعته في
الدولاب .. وارتدت ثوبا منزليا أكثر قدما, وجلست في فراشها قانطة لا تدري ماذا
تصنع بنفسها.
ومن الصالة جاءها صوت أمها في
محاولة مألوفة "للصلح" بعد كل نزاع مماثل:
وفاء .. ألن تأتى لتشربي
الشاي معي؟
فترددت في أن تُجيب نداءها
بعض الوقت, ثم آثرت السلامة وقالت من فراشها:
سآتي بعد قليل يا أمي !
دارت بعينيها في غرفتها التي
ينطق كل شئ بالحرمان .. وتشاركها فيها أخت تدرس بالمرحلة الإعدادية تقاسمها الفراش
الوحيد .. وأخت ثالثة بالمرحلة الابتدائية تنام عند قدمي الأختين بعرض الفراش ..
وتساءلت في اكتئاب .. إلى متى يستمر هذا العناء يا ربى؟
كلما ظنت أن الحياة قد رقت
لها أخيراً واستقرت في عمل جديد تأمل أن تخفف بجزء من مرتبها عنه من جفاف حياة
أسرتها, وتسهم بالجزء الأكبر في نفقات جهازها الذي لم تشتر منه خيطا واحداً .. بدأ
صاحب العمل يتودد إليها .. فتتجاهل غرضه إلى أن يصل معها إلى النقطة الحرجة ..
فتترك العمل باكية على دخلها منه, و تواجه نفس المحنه مع أمها من جديد.
عكست مرآة الدولاب العتيق
وجهها الجميل وجسمها الملفوف .. فتأملتها ساهمة وتولتها فجأة نوبة سخط عارمة فكادت
أفكارها تتحول إلى كلمات مسموعة .. نعم جميلة ومغرية وحتى شقيقتاي لم تحظيا بنصف
جمالي, وأعرف ذلك منذ طفولتي ومنذ كانت أمي تنظر إلىُ بإعجاب وتقول بحسرة:
جميلة ورب الكعبة كأنك من
بنات العز .. فليكن حظك فى الحياة بمثل هذا الجمال!
لكن الجمال لم يفتح لى
الأبواب كما تمنت لى أمي, وإنما أغلقها فى وجهي أكثر من مرة, فلقد صادف هذا الجمال
السخي روحا جادة تنفر من العبث .. وقلبا لا يعرف إلا الإخلاص لمن يحب أما فتى
القلب البائس فقد ارتبطت به منذ سنوات وفضلته على الجميع وصمدت لكل المغريات ..
وحين أنهت دراستها تقدم لها خاطبا, فرفضته أمها بإصرار قائلة لها إن
"جمالها" يستحق من هو أفضل منه, لأن أباها موظف صغير لا يملك شيئا, ولن
يستطيع أن يسهم فى جهازها بمليم. والفتى فقير مثلها ولن يقدر على توفير متطلبات
الزواج فتمسكت بفتاها حتى النهاية .. وأيدها أبوها ضد رغبة أمها فسلمت بما أرادت,
وهى تخلى"مسئوليتها" عن هذه البنت"الفقرية" التي لا تعرف قدر
نفسها, وتمت خطبتها لعصام وقدم لها شبكة ذهبية متواضعة, ونجح بمساعدة أبيه الموظف
بالمعاش في أن يقدم لها بعد عام من الخطبة "مهرا" لا بأس به لمن هو فى
مثل ظروفه, لكن قسوة الحياة استهلكت مهر الابنة خلال فترة الانتظار, وبجرأة غريبة
راحت الأم تنفق من مهر البنت على مطالب أخواتها الضرورية .. وتطلب من الفتى بصراحة
عجيبة أن يعتمد هو وخطيبته على نفسيهما فى إعداد الجهاز, لأن الأسرة لا تستطيع أن
تقدم منه شيئاً.
وتقبل الفتى الأمر الواقع
بلا سخط وكبح كل محاولة من أبيه وأمه للاعتراض, وبدأت وفاء تخرج للبحث عن عمل
وتتقدم لمسابقات الوظائف, فكان جمالها يفتح لها أبواب الاختيار بسهولة فى البداية
ثم لا يضمن لها الاستمرار طويلا.
فبعد أسابيع وربما بعد شهور
تتغير معاملة صاحب العمل لها وتبدأ الدعوات للخروج .. والاستمتاع .. فى البداية
كانت تجفل من كل لمحة معاملة خاصة يبديها نحوها صاحب العمل فتسرع بمغادرة المكان,
وتحاسبها أمها على ترك العمل بغير أسباب جدية, ويتجدد الخلاف بينهما إلى أن يحسمه
الأب لصالح أبنته الجميلة, ثم علمتها الأيام أن تطيل حبال الصبر على أصحاب المكاتب
التى تلتحق بها وتتجاهل لفتاتهم وإشاراتهم لتطيل فترة عملها لديهم إلى أقصى حد
ممكن حتى إذا حانت لحظة الاختيار .. اختارت نفسها وحبها ورجعت باكية إلى البيت
لتجد نظرات أمها الانتقادية في الانتظار.
ويوما سألتها الأم في تعجب:
ولماذا تتصورين أن كل
الرجال يطاردونك .. هل أنت السفيرة عزيزة ؟
فأجابت عنها أفكارها بغير
كلام .. ليس الجمال وحده هو الذي يغوى بى أصحاب العمل يا أمي .. لكنها رائحة الفقر
التي تصاحب هذا الجمال وتهيئ لهم أن "مثلى" لا تصمد طويلاً لإغراءات
الحياة, وهذا هو ما يؤلمني أكثر من أي شئ آخر!
إنك لا تعرفين مرارة
الإحساس بأن ما يغري الآخرين بك ليس جمالك وحده, وإنما أيضا ضعفك وحاجتك وفقرك ..
فهل تفهمين ؟
ويوم قال لى صاحب معرض
السيارات الذي عملت معه ثلاثة شهور : قولي نعم وسوف تستبدلين هذا الفستان القديم
البالي بدولاب كامل من الفساتين .. وسوف .. وسوف.
فكانت إجابتي عليه أن طلبت
أجرى عن الأيام التي عملت فيها معه من الشهر, و انصرفت من مكتبه مودعة بسخريته
اللاذعة, وبكيت حتى احمرت عيناي وأنا أدافع عن نفسي أمامك بأني لا أتوهم أشياء غير
حقيقية ولست معقدة من الرجال كما تتصورين, ولولا إدراكي لقسوة الظروف لاتهمتك بأنك
تدفعيني دفعا إلى طريق التساهل بحسابك العسير لى في كل مرة حين أترك العمل.
أما صاحب مكتب الاستيراد الذي
عملت معه أربعة شهور, فلقد كدت أفقدك يا أمي نهائياً بسببه لولا حنان أبى وطيبته.
فلقد طال عملي معه لأنه
يعاملني باحترام وأبوه في البداية .. لكنه بعد شهرين بدأ يسألني عن أسرتي وحياتي
الخاصة وخطيبي .. وينصحني بالتخلص منه, وبأن يبحث كل منا عن حظه مع طرف آخر ظروفه
أفضل, لأننا إذا استمرينا في مشروع زواجنا مع ظروف كل منا فلن نتزوج قبل
"قرن" من الزمان, وقدرت نصيحته وشكرته عليها, لكنى تمسكت بحبي حتى
النهاية, فإذا بى أفاجأ به جالسا بين يديك في صالة شقتنا المتواضعة, وأنت لا تسعك
الفرحة به وبهدية "التعارف" التي قدمها لك وجبل "الجاتوه" الذي
جاء به, ثم تزفين لى "البشرى" بأنه قد جاء يخطبني منك, وسوف ينتشل
أسرتنا كلها من الحاجة .. ويوفر لى كل ما تحلم به فتاة جميلة مثلى .. وسأبقى وسط
أهلي كما كنت, ولن يتغير في حياتي شئ سوى أنه سوف "ينقلنا" جميعا إلى
شقة حديثة تكون لى فيها غرفة خاصة مستقلة هي عش زواجي به .. لأنه زوج وأب لأبناء في
المدارس والجامعات ولا يريد لهم أن يعرفوا أنه قد تزوج بشابة جميلة, وبقدر دهشتي للعرض.
كانت دهشتي لفرحتك به
ومحاولتك إقناعي بقبوله حتى ذكرتك بأن قراني معقود على شاب آخر منذ عامين وأنني
أحبه ولن أتزوج غيره .. ولو تزوجت سواه فلن أكون زوجة ثانية وسرية لرجل متزوج وأب
لأبناء .. وغضبت منك يا أمي كما لم أغضب من قبل, وهجرت بيتي إلى بيت عمى القريب
واعتصمت به وتوقفت عن الذهاب إلى العمل, إلى أن جاءني أبى وتعهد بألا تفاتحيني في
هذا الأمر مرة أخرى .. فلماذا تقسين علىٌ يا أمي من جديد وتحاسبيني على تركي للعمل
الأخير لنفس الظروف ؟
لاحقها صوت أمها مرة أخرى
فأيقظها من أفكارها الكئيبة .. خرجت إلى الصالة المتداعية, وجلست إلى جوار أمها
وتناولت كوب الشاي فى صمت, فرمقتها أمها بظل ابتسامة, ثم قالت لها لتنهى الموقف
بعد أن علمتها الظروف أن "تخشى" غضبها ومقاطعتها الصامتة الطويلة لها:
اشربي الشاي يا بنت الأكابر
ولا تحزني .. فسوف يفرجها ربك من باب آخر!
راحت تحتسى الشاي فى صمت
فرن جرس الباب بعد قليل, ونهضت لتفتحه وابتسمت للمرة الأولى منذ رجعت للبيت.
دخل شاب أسمر اللون طويل
القامة تشي ملامحه بالطيبة والوسامة .. وعادت به إلى مجلس أمها وهو يقول لها:
كيف حالك يا
"حماتى" ؟
فأجابته بابتسامة معبرة وهى
تشير برأسها إلى ابنتها:
أنا بخير .. لكن هناك
"أناسا" آخرين يحملون هموم الدنيا فوق رؤوسهم !
فالتفت الشاب إلى فتاته
وسألها ببراءة:
ماذا جرى ؟
فنهضت وهى تقول:
لا شئ
ثم دخلت غرفتها لترتدي
ملابسها.
عاد بنظره إلى الأم فقالت
له باقتضاب:نفس القصة القديمة .. تركت العمل ولن ترجع إليه.
فأحنى رأسه صامتا فسمعها
تسأله: وأنت .. ألم يأذن الله بالفرج بعد ؟
فأجابها محرجاً من إثارة
"الموضوع":
ليس بعد يا حماتي.
والتزم الصمت حتى عادت
فتاته مرتدية فستان الخروج واستأذنت من أمها وخرجت معه.
في الطريق سألته بإشفاق : لماذا
تبدو واجماً .. هل سألتك أمي عن نفس الموضوع مرة أخرى؟
فأجابها بإشفاق نعم ..
لكنها لم تزد على السؤال فلا تضيفي إلى أسباب كدرك سبباً جديداً .
أدركت على الفور أن أمها
روت له عن تركها للعمل فتأبطت ذراعه .. وجذبتها إليها حتى استشعرت مس كوعه لصدرها,
كأنها تحتمي به من الضعف والذئاب وقسوة الظروف, فاستشعرت الراحة للمرة الأولى منذ
عادت للبيت.
كانت نزهتهما لا تتجاوز في
أحيان كثيرة المشي في الشوارع المحيطة بالبيت أو زيارة أبوية في بيتهما القريب.
وفى المناسبات البعيدة كانا يذهبان إلى السينما أو إلى كازينو مطل على النيل, وشعر
عصام بأن "الموقف" يحتاج اليوم إلى شئ من الترويح, فعرض عليها دعوتها
للذهاب للسينما, لكنها لم تتحمس للاقتراح ومالت به إلى مقهى بلدي لم يكن مألوفا
جلوس الفتيات به, وطلبت منه أن يستريحا فيه لتتحدث إليه في أمر جاد رافضة بالذهاب
إلى كازينو النيل, انتحيا طرفا من الرصيف, وجلسا وسط دهشة بعض الرواد ثم غرقت في
صمتها فترة ورفعت رأسها إليه وقالت له فجأة :عصام لنتزوج بأسرع وقت .. غدا .. أو
اليوم إذا استطعنا.
فأجابها مندهشاً:
تمزحين .. أليس كذلك ؟
لكن تساؤله تراجع أمام
جديتها الصارمة وهى تقول له:
أنا جادة كل الجد .. فأنت
وأنا لا أمل لنا فى المساعدة من أسرتي أو أسرتك .. ولقد وعدك أبواك بأن يخليا لك
شقتهما ويعودا للحياة في بلدتهما بالأقاليم في أي وقت نتزوج فيه .. ونحن لن ننجح في
شراء إبرة من الجهاز المطلوب قبل سنوات طويلة .. إذن فلنتزوج الآن .. وليرحل أبواك
مشكورين إلى بلدتهما .. ولنبدأ معاً من الصفر ونبنى عشنا ونشترى مستلزمات الزواج
قطعة قطعة .. وبالتقسيط .. والآن بلا تردد فهذه فرصتنا الوحيدة بعد 6 سنوات من
الحب والخطبة والارتباط.
ابتهج باطنه بالاقتراح
السعيد الذي يترجم حبها وتمسكها له رغم سوء الأحوال, لكنه أشفق عليها من صعوبة
الحياة بلا أيه إمكانات, وذكرها بأن أبويه حين يرحلان عن الشقة الصغيرة المكونة من
غرفتين بالدور الأرضي, فسوف يأخذان معهما أثاثهما العتيق وحتى أدوات المطبخ أيضا ليؤثثا
بها غرفتي السطح في بيت أسرة أبيه القديم, وبذلك ستكون شقة الزوجية التي سيبدآن
فيها حياتهما "على البلاط" حين يتزوجان, فكيف تستطيع احتمال الحياة
هكذا, وحتى الأغطية لن يجداها في ليل الشتاء لأنهما لا يستطيعان شراء شئ الآن
بمرتبه الذي لا يتجاوز مائة وسبعين جنيها ً .. حدثها بكل ذلك ثم استطرد:
فهل تدركين معنى الزواج فوق
البلاط !
نعم أدركه .. ولا تنس أنني
لست بنت عز وإنما خبرت جفاف الحياة والحرمان مثلك طوال حياتي .. سوف ننام على
البلاط حتى نشترى فراشاً وأدوات للمطبخ وأدوات منزلية, وسوف أعمل وأساعدك وسنشترى
كل شئ بالتقسيط خلال خمس سنوات بإذن الله.
نظر إليها بعمق يرقب وجهها
الجميل الذي تألق جماله بفورة الحماس التي انتابتها, وقال لها بعطف وحب يجلان عن
الكلام:
هل ترضين لهذا
"الجمال" الذى أستكثره فى أحيان كثيرة على نفسي بأن ينام فوق البلاط
ويعيش على السندوتشات, وقد كان فى مقدوره أن يتمرغ فوق الحرير؟
شاع الرضا في وجهها وطربت
للثناء لكنها قالت له وعيناها تلمعان بالرغبة في مداعبته:
اطلب لى فنجاناً من القهوة
ولا تذكرني بما أسمعه من أمي .. ومن "الذئاب" .. وإلا غيرت رأيي في
الزواج منك !
دعا الجرسون وطلب منه
فنجانين من القهوة .. والتفت إليها فرآها تنظر في عطف رق له قلبه, فتولاه فجأة
الإحساس المؤلم بالعجز عن إسعادها وقال لها فيما يشبه الأنين والولولة:
لماذا ربطت نفسك بشاب فقير
مثلى .. ولماذا لا تقبلي عرض "الرجل" الغنى صاحب مكتب الاستيراد .. ولماذا
كنت مثلي ضحية لمثل هذا الفقر الأزلي؟ .. إننا فقيران للغاية يا وفاء, وهذا أمر
محزن في حد ذاته, لكنه يؤلمني الآن بأكثر من أي وقت مضى لأنك ستبدئين حياتك
الجديدة ونحن لا نملك شيئاً .. أي شئ...
استمعت إلى أنينه بقلب لم
ينبض بالحب إلا له, وقالت بهدوء أرادت أن تعيد به الثقة إلى نفسه:
نحن نملك كل شئ .. نملك
الحب .. والإخلاص والصفاء والشباب والصحة .. والشهادات .. وسنكافح معا لبناء
حياتنا قطعة قطعة فلماذا "تولول" هكذا كالضعفاء ؟.
هم بأن يجادلها في الأمر
مرة أخرى .. لكنها رفعت إصبعها في وجهه محذرة قالت له : لا تفسد علي استمتاعي
بقهوتي .. وأبلغ أبويك أن يستعدا للرحيل بسلام خلال يومين لأننا سنتزوج يوم الخميس
القادم بإذن الله.
فلم يملك إلا أن يتنازل عن
أية معارضة .. وراح يرقبها وهى تحسو القهوة بتلذذ واطمئنان عجيبين فجاش صدره من
جديد بحب طاغ لها .. وتمنى لو كان ربه قد وهبه مال قارون لينثره كله فوق رأسها في
هذه اللحظة نفسها .. وهى جالسة فوق هذا المقعد الخشبي القديم .. في هذا المقهى
البلدي المتواضع !
· نشرت في كتاب الحب فوق البلاط
كتابة النص
من مصدره / بسنت محمود
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر