السر المكتوم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

السر المكتوم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994


السر المكتوم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994


أريد أن أعرض عليك قصتي وأطمع في سعة صدرك حتى انتهى من سردها لأني لا استطيع أن أتحدث بها لأحد وأحس بالاختناق ضيقا بما اكتمه عن الجميع.

 أنا سيدة جامعية وأعمل عملا مرموقا وقد عشت طفولة محرومة بين أبوين نزحا من الريف وعمري حوالي عام وأقاما في المدينة وعمل أبي في وظيفة حكومية صغيرة، وكان أبرز ما يميز شخصيته هو الصرامة في معاملة أبنائه وأنه لا يعرف من مبادئ التربية سوى الشدة المتناهية معهم وغرس طاعة الصغير للكبير واحترامه أما أمي فلست أذكر لها في مخيلتي سوى البكاء والطاعة العمياء لأبي وقد رزقت بي وعمرها ثمانية عشر عاما فكانت طفلة كبيرة ترعى طفلة أصغر منها وكان أبي رغم صرامته في معاملتنا حسن النية وقليل الخبرة بالحياة وبالنفوس البشرية كما كان کریما يفتح بيته لكل من هب ودب، ليقيموا فيه خاصة من أبناء قريته .. فكانت ثمرة هذه الغفلة والسذاجة أن اعتدى أحد هؤلاء الذين فتح لهم بيته وآواهم على وأنا طفلة صغيرة لا أتجاوز من العمر سبع سنوات.. ولم أع جيدا ما حدث لي ولم أخبر به أحدا فقد تشربت طاعة الكبار والخوف منهم دائما.. ولم ألبث أن نسيت كطفلة ما حدث معي ومضت السنوات وتقدمت في الدراسة وتفتحت مدارکي فبدأت أدرك حقيقة ما جرى لي.

 

وقد تعجب حين أقول لك إني قد تبينت ذلك وأنا طالبة في ختام المرحلة الثانوية ومن مشكلة مشابهة نشرت في إحدى الصحف ووجدتها مطابقة لما حدث معي فانتابني الهلع وتشككت في سلامتي کفتاة وتذكرت الشيء البشع الذي حدث لي في طفولتي وتساءلت ماذا لو كنت حقا غير سليمة .. وكيف أواجه الحياة.. وماذا أفعل إذا خطبت لشاب وكيف أتصرف معه هل أصارحه بشکوکي في نفسي.. وهل يصدقني ويتمسك بي أم يحتقرني ويتركني مجللة بالخزي وهل يكون أمامي طريق آخر في مثل هذه الحالة إلا الانتحار؟

وثقلت علي أفكاري وهواجسي وابتلت وسادتي من كثرة دموعي كلما تمثلت هذا المستقبل المحفوف بالمخاطر.. وأخيرا نزلت علي هداية من السماء وقررت أن أدع أمري لخالقي يصرفه كيف يشاء والتحقت بالجامعة.. وتجنبت كل الشباب كأني افر من خطر محتوم.. ورفضت كل محاولات الاقتراب مني في الجامعة وبعد التخرج حتى لا أبدا قصة اعرف مقدما نهايتها المأساوية.. ورفضت كل من تقدموا للزواج مني

بأسباب مختلفة ومتعددة وكاذبة إلى أن التقيت بإنسان لم استطع مقاومته.. وانهزمت أمامه كل محاذيري وأحببته من أول نظرة.. وأحبني وتمت الخطبة وسط دهشة أهلي لسرعة قبولي لهذا الخاطب الجديد الذي أسقط بلا عناء كل اعتراضاتي.. وتم عقد القران وتحديد موعد الزفاف .

 

وفجأة يا سيدي انتفض المارد النائم في أعماقي من سنوات بعيدة واستيقظت كل المخاوف القديمة من سباتها وراحت تنهشني بلا رحمة حتى بدأت الأمراض تهاجمني من حين لآخر فارقد في الفراش أياما غير قادرة على الحراك ويجيء الطبيب فيفحصني ويطمئن أهلي بأنها مجرد متاعب نفسية، قد ترجع إلى الخوف المألوف في مثل هذه الظروف من الحياة الجديدة التي أقدم عليها . ثم نجيء لليلة الحاسمة التي سيتقرر فيها مصيري ومصير حبي وزواجي وسعادتي إلى نهاية العمر.. واكتشف أن كل ما خفت منه كان صحيحا للأسف وأبكي حتى تجف دموعي.. ويبکي زوجی الشاب بكاء حارا مؤلما يضاعف من أحزاني وقهري وحيرتي وأروي له كل شيء فيصدقني بلا تردد مؤكدا لي أنه لا ذنب لي فيما حدث فأبكي أنهار أخرى من الدموع إحساسا بالنقص.. وإحساسا بجميله وفضله علي.

 

وتمضي الأيام الأولى من الزواج ظاهريا بسلام ولا يشعر الأهل بشی، أما داخليا فهنالك شرخ عميق في القلب لا يفارقني الإحساس به ليلا ونهارا.

وتمضي بنا الحياة رغم ذلك في حب وسعادة وصفاء نفس.. فقد قطعت على نفسي عهدا ألا أتسبب لزوجي في أي إيلام مهما كان بسيطا وأن أكون له الزوجة المطيعة بالفطرة وبالتربية وبالرغبة أيضا في إسعاده فلم أحاول أبدا أن أحاسبه على أي شيء مؤكدة لنفسي انه مهما فعل معي فله الحق فيه.. إذ كيف أرد له جميله الذي طوق به عنقي وهو الذي صدقني في شدتي وحماني ورعاني ومنحني ثقته الغالية وتجنب الإشارة إلى نقصي، طوال خمس سنوات من عمر زواجنا حتى الآن. إنني لا أتسامح مع نفسي إذا نسيت مرة وحدثته بما لا يحب.

 

 ومشكلتي الحقيقية الآن يا سيدي هي أننا ككل زوجين تختلف طباعنا وتنتج عن هذا بعض الخلافات البسيطة العابرة أحيانا.. ورغم إنني أحاول دائما إرضاءه إلا إنني في بعض الأحيان قد أواجهه أو أثور للحظات على مالا يعجبني ثم أفيق إلى نفسي بعد انصرافه فانفجر في البكاء وانهال على نفسي باللوم القاسي والتقريع المؤلم وأتساءل:

 

هل نسيت من أنت ومن هو.. هل نسيت ما فعل من أجلك وما تغاضى عنه نبلا منه وفضلا وأتذكر من جديد ما حدث لي في طفولتي وابكي مرة أخرى واحمل ذلك الشيء البشع الذي حدث منذ سنوات بعيدة مسئولية وضعي الآن فلولا هذا الشيء الكريه لما کنت بهذه السلبية مع زوجي ولكان لي رد فعل آخر.. لكي اعدل عن هذا الرأي بعد قليل وأقول إن نشأتي على الطاعة هي المسئولة عن ذلك وليس هذا الشيء الكريه وحده وأتساءل : ترى هل يتذكره زوجي إذا اختلفنا حول أی أمر عابر مما تشهده حياة أي زوجين.. فيسأل نفسه مستنكرا: هل هذه نفسها الفتاة التي تواجهني الآن وتثور علي هي نفسها الفتاة المنكسرة التي أحببتها وصدقتها وحميتها وحفظت سرها؟

أم تراه قد نسي ما حدث ولم يعد يذكره لي .. إنني أتمنى من أعماقي أن أسأله هذا السؤال لكني أخشى أن أذكره بانطفاء الفرحة في ليلة العمر والبكاء المؤلم لكل منا فأجدد الذكريات المؤلمة.

 إنني أحاول نسيانه وأتعمد عدم الاحتفال بعيد زواجنا حتى لا أجدد هذه الذكرى عنده وقد حاولت كثيرا أن أحكي قصتي لأحد.. أي احد لكي أخفف منها لكني خشيت أن يجرح مشاعري فعدت لمواصلة الكتمان حتى وجدت القدرة في نفسي على أن ارويها لك وأقول في نهاية رسالتي.. آه لو يعرف زوجي کم أحبه وكم أشعر بجميله .. وكم أدرك أنه لولاه لكان مصيري التعاسة والشقاء إلى الأبد .. إنه نعمة كبرى انعم بها الله علي تعويضا لى عن قدر لم يكن لي فيه يد .. فقط أسالك لماذا أحس بألم شديد في جسمي كله وعلى الأخص ذراعي کلما حدث خلاف بسيط بيني وبين زوجي وهل يتطور هذا إلى الشلل ذات يوم؟

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

ولماذا لا يكون التراحم والتراضي وضبط النفس واستعدادك لمواجهة انفلاتات أعصابك مع زوجك راجعا إلى الحب والرغبة المخلصة في تجميل رحلة حياتك مع زوجك المحب المخلص.. وليس إلى الإحساس بالنقص أو الذنب أو العرفان له بالجميل؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تضعك على بداية الطريق الصحيح لترسيخ دعائم سعادتك مع زوجك بدلا من هدمها على المدى البعيد.. ذلك أنه فارق كبير بين أن يكون ضبطك لنفسك مع زوجك بسبب الحب والفهم الصحيح الراقي للعشرة الطيبة بين زوجين متحابين التي تفرض على أحدهما أن يرخی دائما شعرة معاوية كلما شدها الآخر بعنف وبين أن يكون إذعانا أو شعورا بالنقص أو الذنب تجاهه.. أو خوفا من أن تستدعي مشاحنات العابرة معه إحساسه بأنك لا تقدرين له صنيعه معك، ففي الحالة الأولى لن تعتبري حسابك لنفسك على أي انفلاتات لأعصابك معه سلبية تندمين عليها أو تتحسرين على أنك مضطرة إليها أو مرغمة عليها بسبب موقف زوجك الكريم منك ليلة الزفاف وحفظه لكرامتك وأمانك، أما في الحالة الثانية فسوف تعتبرينها فعلا سلبية وتساءلين في حيرة هل هي بسبب هذا الحادث القديم البشع في طفولتك أم بسبب نشأتك التي تشربت فيها طاعة الكبار واحترامهم؟

إن الإنسان ليس مطالبا بتفسير خصاله الحميدة ولا محاولة تحليل أسبابها إذ يكفي أن يتحلی بها لأنه جدير بها احتراما لنفسه في البداية.. وحرصا على العدل مع الآخرين وتجنبا لمتاعب النزعات العدوانية تجاههم في النهاية، ومع أن الخصال الذميمة وحدها هي التي تحتاج إلى تفسير وتحليل ومجاهدة للنفس للعلاج منها، فاني أقول لك يا سيدتي.. إن طاعة الزوج ليست سلبية تضطرين إليها عرفانا بالجميل وإنما هي أمر إلهي أمر به الله سبحانه وتعالى الزوجات وقدمها على طاعة الأبوين بعد الزواج حرصا على نجاحه واستمراره، إذن فلا مبرر على الإطلاق لتفسير طاعتك لزوجك وضبطك لنفسك معه أية تفسيرات سلبية تعمق لديك الإحساس بالذنب والشعور بالدونية تجاهه فالتناطح بين الزوجة زوجها ليس شرفا لأية زوجة.

 تأسين على أنك محرومة منه بسبب ظروفك الخاصة المؤلمة التي لا ذنب لك فيها.

وزوجك يستحق منك أن تضبطي أعصابك معه ليس ردا لجميله معك.. وإنما لأنه يحبك ويحترمك ويثق بك ويحسن عشرتك كما أفهم من رسالتك ثم لأنك أيضا تحبينه وتستشعرين الأمان والكرامة في كنفه .. وإلى جانب ذلك فإن معايشة هذا الإحساس المؤلم بالنقص أو الذنب تجاهه لن تثمر أبدا علاقة طبيعية بينك وبينه.. وإنما علاقة متكلفة لا تصمد طويلا للزمن، وقد تنتهي بالغربة النفسية الكاملة وربما بالانفصال عنه كلما ضعف تدريجيا إحساسك تجاهه بالعرفان مع مرور السنين.

 وإذا كان الأصلاء من البشر هم الذين لا يتنكرون لمن أحسنوا إليهم ولا ينسون لهم صنيعهم فإن ذلك لا يعني أبدا الانكسار والذلة والإحساس بالنقص تجاههم.. ولا أصحاب الفضل يسعدهم أن نحمل لهم هذه المشاعر غير السوية التي تعوق تواصلنا النفسي معهم وإنما يسعدهم أن نعبر عن عرفاننا لهم بالحب الصادق المبرأ من شبهة النقص والإحساس بالذنب.. وبالوفاء لهم الذي يشرفنا نحن قبل أن يعتزوا هم به.. وبالعطاء المخلص لهم من أنفسنا حين يحتاجون إلى العطاء وأبسطه الاهتمام والمشاركة.. هذا هو العرفان الصحيح الذي لا يترك أية آثار سلبية على نفسياتنا، وهو أيضا ما ينبغي أن تقدميه لزوجك فيبادله هو تقديرا بتقدير وحرصا عليك بحرص منه عليك. 

وإذا كان زوجك قد جنبك بالفعل آلاما قاسيا كان من الممكن أن يعرضك لها لو كان قد تصرف تصرفا آخر غير ما فعل معك.. فلقد كان عادلا وأمينا معك ومع نفسه حين لم يحاسبك عما لا ذنب لك فيه مدركا عن حق أن الحساب إنما يسقط عن المستكره وعن الصغار الذين لا يعون ما يفعلون.

ويبقى بعد ذلك ألا تجلدي أنت نفسك بخطأ الآخرين في حقك في طفولتك البعيدة.. وأن تتخلصي من إحساسك الدفين بالذنب الذي يشعرك بعدم الجدارة والذي يمكن أن ينتهي بك إذا لم تتدارکي نفسك إلى موقف انهزامي من الحياة يعوق تواصلك مع الآخرين وإقامة علاقات اجتماعية سليمة معهم ويكبل حريتك النفسية بأسوأ القيود.. وقد ينتهي بك في أقصى مضاعفاته إلى المرض الجسمي والنفسي،

والحرية النفسية هي تحرر النفس من العوائق النفسية الداخلية التي تحول دون استمرار نموه النفسي ودون ظهور مواهبه وقدراته الخاصة ولعل الآلام التي تحسينها في جسمك وذراعك هي نتيجة لهذا الصراع المحتدم داخلك بين رغبتك القوية في التعبير عن نفسك بحرية مع زوجك وبين الكوابح، التي تكبح بعنف هذه الرغبة بسبب إحساسك بالذنب والنقص والخوف من أن يذكره ذلك بما حدث وبما تريدين له أن ينساه حتى لا يتصور فيك الجحود والتنكر له.

 

 وأنت تسألينني هل يتذكر لك ما حدث في ليلة العمر حين تواجهين أو تثورين في بعض الأحيان، وجوابي هو أننا نتذكر غالبا ما قدمناه للآخرين حين يصدموننا بجحود جارح لمشاعرنا ولمعاني الوفاء النبيلة، وهذه آفة في النفس البشرية لم يخل منها إلا الأنبياء .. إذ يدفعنا التناقض الحاد بين جمیل العطاء وبين سوء الجزاء إلى أن نتذكر ما قدمناه من قبل لمن يسيئون إلينا الآن وأن نتحسر على ضياع الوفاء فيهم.. لكن ذلك لا يحدث إلا في الكبائر، التي يرتبكها الآخرون ضدنا وليس في هفواتهم وصغائرهم العابرة معنا.

وفي كل الأحوال فلن يصل بك الحال أبدا إلى التعرض للشلل لا قدر الله.

لكنه يجب أن تعفي نفسك من هذا الصراع المستمر والمخاوف الكامنة فالخلافات العابرة البسيطة بين الأزواج من طبيعة الحياة.. ولا بأس بأن يعبر كل طرف فيها عن نفسه بحرية في حدود الالتزام باحترام مشاعر الآخر وكرامته وحقه عليه.

فالتعبير عن الرأي الحقيقي لكل طرف أو حتى مشاعره الانفعالية المؤقتة في لحظة الخلاف ليس شجارا ولا جحودا مادام يلتزم بآداب الحوار واحترام المشاعر.

ولم تخل حياة "حتى حياة الأنبياء أنفسهم" من مثل هذه الملاحاة البسيطة بينهم وبين زوجاتهم في بعض الأحيان .. والمهم دائما هو أن تؤمن الزوجة باستمرار بزوجها إيمانا كاملا وألا تكون لها أية اعتراضات جوهرية على شخصيته، وألا تنطوي على أي إحساس بالاستيلاء عليه، ولا بالنقص والدونية تجاهه، وكذلك ينبغي أن يفعل الزوج، أما فيما عدا ذلك فلا يؤثر على الزواج ولا الحب مثل هذه الملاحاة البسيطة بل لربما عمقتهما أحيانا.. كما يصلع القليل من الملح، مذاق الطعام ويفسده الكثير منه.. وشكرا.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1994

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات