الضرب في المليان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أنا مصرية أقيم
في كندا.. وأتابع بابك بانتظام وقد لاحظت أنه في ردودك على المشاكل التي ترد إليك
في بريد الجمعة، أراك تحمل بشدة على من يرفع يده بالضرب على أمه، وهذا اتجاه
محمود، بل هو أقل ما يجب إزاء هذه الجريمة الشنعاء، وفقك الله في تعميق مباديء
الدين والأخلاق .. ولكني لا أراك تحمل بشدة مماثلة على من يرفع يده بالضرب على
زوجته .. فإذا كان سندك في هذا الاتجاه هو محكم آيات القرآن الكريم، فإن هناك فرقا
كبيرا بين ما أمرنا الله به وبين ما أباحه لنا، وشتان ما بين الاثنين فالله عز وجل
قد أباح للرجل ضرب زوجته للضرورة القصوى ولكنه لم يأمره بضربها "عمال على
بطال" وفي جميع الرسائل المنشورة التي تشكو فيها الزوجة من ضرب زوجها، كان
واضحا تماما أن الضرب لم يكن لضرورة قصوى ولكن لفساد خلق الزوج، فكيف لا توجه له
ولو بعض النقد، وتذكره بكلام الله سبحانه وتعالى بأن الزواج مودة ورحمة وسكن.
ثم لماذا
تنشرون رسائل متتالية كثيرة تتحدث فيها الشاكيات عن تسامحهن مع أزواجهن في موضوع
الضرب هذا بسهولة غريبة تصل في بعض الأحيان إلى حد الاعتذار للزوج واستسماحه ..
أنا يا سيدي لا اعرف إذا كان عندك بنات أم لا، ولكن نشر هذه الرسائل بهذا المعدل يجعل
بناتنا يعتقدن أن الضرب ليس جرحا للكرامة، ولكنه من أمور الزواج العادية التي
تغتفر بسهولة.
فهل تقبل يا
سيدي أن يقوم زوج ابنتك بضربها أم أنك تربيها على أن يكون لها كرامة، وأن يكون
زوجها هو أول من يحافظ على هذه الكرامة؟
وفقك الله
فيما تقدمه للقراء من نصائح وأثابك خير الثواب.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
نعم يا سيدتي
الضرب جارح للكرامة أيا كانت أسبابه ومبرراته.. وهو ليس من أمور الحياة الزوجية
العادية ولا ينبغي له أن يكون كذلك أبدا .. لهذا لم يرخص به الله جل شانه إلا
بشروط قاسية وفي باب واحد فقط هو باب الإصلاح كراهية للطلاق.. وأول هذه الشروط
كفيل وحده لان يخرج من دائرة المباح كل أو معظم حالات الضرب التي تتردد في رسائل
القارئات.. ذلك أن معظم الفقهاء يتفقون على ضرورة توافر شرط جوهري هام لاستخدام
هذه الرخصة هو اعتقاد الزوج أن الضرب سوف يجدي في الإصلاح فإذا عرف غير ذلك لم يكن
له أن يفعل.. وهذا الاعتقاد، يعني بالضرورة أن يكون الضرب تصرفا صادرا عن تفكير
هادىء، وليس عن ثورة انفعال طاغية أو كرد فعل لحظي لتصاعد انفعالی.
أما باقي
الشروط فلا تقل شدة عن الشرط الأول ومنها أن يكون للإعلام، وليس للإيلام حتى قال بعض
الفقهاء أنه يجور بالسواك، ومنها ألا يكون شديدة وألا يترك أثرا في الجسم وألا
يكون في مواضع أكثر عرضة للإيذاء كالوجه والصدر والبطن إلخ.
بل إن الإمام
ابن حزم الأندلسي يقول عن ذلك فإن عصته كان له هجرانها حتى تطيعه وضربها بما لا
يؤلم ولا يجرح ولا يكسر، فإن ضربها بغير ذنب أقيدت منه "أي أخذ لها بالقصاص
منه" وقد رخص الله به وفقا لهذه الشروط القاسية كراهية للطلاق الذي لم يكره
الإسلام شيئا مباحا كما كرهه لهذا فقد أمر الزوج بأن يتخذ خطوات ضرورية قبل
الإقدام عليه، هي بالترتيب الوعظ والإرشاد أي بلغة العصر الحوار المنطقي العاقل
والإقناع الهادئ، وتوضيح الحقائق.. والاستمالة ثم الهجر في الفراش ثم الضرب ثم
التحكيم.
إذن فالضرب
هنا هو الخطوة الثالثة في السعي للإصلاح وتجنب الطلاق وهو محكوم بشروط تجعله أقرب
إلى التهديد منه إلى التنفيذ الفعلي وقد تعفف عنه رسولنا الكريم صلوات الله عليه
فروت عنه
السيدة عائشة أنه ما ضرب رسول الله ﷺ امرأة قط
ولا خادما ولا ضرب شيئا بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله.
كما أن الآية
الكريمة التي أباحته والتي تقول: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن
في المضاجع واضربوهن" تقول أيضا
فإن أطعنكم
فلا تبغوا عليهن سبيلا، أي لا تعتدوا عليهن ولا تظلموهن ويختتمها جل شانه بقوله "إن
الله كان عليا كبيرا" وهو ما يری المفسرون أن المقصود به تنبيه الغافلين
والحمقى إلى أن قدرة الله عليهم فوق قدرتهم على زوجاتهم حتى لا يتمادوا في الحمق
والعدوان.
أما طاعة
الزوج التي تعتبر الزوجة ناشزا إذا خرجت عليها فهي عند معظم الفقهاء: الإجابة في
الفراش.. وعدم الخروج بغير إذن الزوج عمدا وتحديا وتكرارا والالتزام بهذه الشروط
لا يسفر في أغلب ظني سوی عن ربتة خفيفة على الظهر من جانب الزوج الراغب في الإصلاح
إبراء لذمته قبل اللجوء للتحكيم، مع نصيحتي له بان ينبه زوجته صراحة وقبل أن يفعل
إلى أنها "ربتة ضرب بهدف الإصلاح كراهة للطلاق" وليست ربتة حنان أو
مداعبة لأنها لن تستطيع أن تفرق بينهما غالبا إذا لم ينبها لذلك.
فأي حرص على
رابطة الأسرة أنبل من ذلك وأي ضمانات وأي قيود وشروط أقسى من هذه الشروط والقيود؟
إن الضرب هو قمة انفعال الإنسان وعدوانيته تجاه الآخرين وكثيرا ما ينفعل الإنسان
ويفقد
سيطرته على
نفسه في بعض معاملاته اليومية، لكن هناك ضوابط كثيرة كالدين والأخلاق والقانون
والعرف وخوف الأذى من الآخرين تحكم سلوكه وتجبره على أن يسيطر على نفسه ويردها عن
الاستجابة لانفعالاتها العدوانية.
فلماذا لا تفقد هذه الضوابط تأثيرها علينا إلا
مع اقرب الناس إلينا وحدهم؟ ولماذا لا نترجم هذا الانفلات العصبي إلى لكمة أو صفعة
إلا معهم وحدهم وهم أحق الناس بأن نعتصم معهم بالحكمة وضبط النفس؟ هذا هو السؤال
الذي يستحق التأمل فعلا .. وينبغي أن يجيب عنه بأمانة كل من يتحلى بضبط النفس مع
من يخشی أن يبادلوه ضربا بضرب.. ويتخلى عنه مع من لا يخشى منهم ذلك أو لا يقدرون
عليه.. ولو أجاب عنه بصدق لخجل من نفسه وتعفف عن الاعتذار عن عدوانيته مع الضعفاء
بانفلاته العصبي.
وإذا كنا نقول
ذلك فينبغي علينا التزاما بالأمانة والموضوعية أن نقول أيضا أن الضرب ليس هو
الجريمة الوحيدة وأن التحريض عليه أيضا جريمة لا تقل بشاعة عنه.
وهكذا قد يبدأ
الخلاف بسبب عابر.. وينتهي بكلام فلسفي عميق عن الزواج والطلاق والجحود ونكران
الجميل والتضحيات إلخ.. في حين أنه لو بقي في دائرة السبب المباشر لما تصاعد حتى
بلغ حافة الحمق والانفعال.
وفي خلال هذا
التصعيد الدرامي قد لا يبذل أحد الطرفين أي جهد يذكر لتجنب مس الأوتار الحساسة لشريك
حياته والتي عرف بالتجربة مرارا وتكرارا أن مسها يفقده اتزانه وعقله كما قد لا
يحاول أحدهما تجنب عبور الخط الأحمر الذي يفصل بين المناقشة وحق الاختلاف في الرأي
وبين الإهانة والتجريح وهو ما أقصده "بالتحريض على الضرب" .. إنني يا
سيدتي لا اعتبر نفسي مقصرا في إدانة الضرب
واستنكاره ولا
أعفي مرتكبه من مسئوليته عنه.. لكني أدين أيضا التحريض عليه بتجاوز الخط الأحمر في
علاقة الزوجين إلى الإهانة والتجريح والصوت الأوبرالي المزعج الذي يهتك الأسرار
ويخدش الحرمات ويفقد الأسرة خصوصيتها وبنشر أسرارها.
ولقد زرت كندا التي تعيشين فيها منذ أربعة شهور
فكان من بين ما ناقشني فيه المهتمون بأحوال المجتمع هناك، انتشار ظاهرة العنف ضد
المرأة لديهم ومصرع ۱۲۰ سيدة على أيدي الأزواج
والأصدقاء خلال العام الماضي فقط في إقليم كيبك وحده الذي لا يزيد عدد سكانه على
6.7 مليون نسمة، وهي نسبة مرتفعة جدا كما ترين
بالقياس إلى عدد السكان، وقد كان تفسيرهم لهذه الظاهرة أنها رد فعل عکسي لسيطرة المرأة
على حياة الرجل الكندي لأن كل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده.
إذن فحياتنا
الاجتماعية مازالت بخير.. والعلاقات الزوجية في مجموعها أيضا مازالت بخير وسوف
تبقى كذلك مادامت القيم الدينية والأخلاقية التي تضبط سلوك البشر، فإذا كنت قد قرأت
بعض رسائل الزوجات تروي قصص الضرب التي تعرضن لها فليس من صالح أحد تجاهلها، ولا
من صالح زوجة وإن غفرت لزوجها خطأه في حقها أن ألومها على صفحها ونسيانها.. ومن لا
يعرف الخطأ لم يستطع أن يميز الصواب، بل أن من لا يعرف الشر كما قال صادقا اوليفر
كرومويل الزعيم البريطاني الشهير في القرن السابع عشر "قد يقع فيه أكثر
ممن
عرفه وتنبه إليه" .
وإذا
كنت تسألينني بعد ذلك هل اربي ابنتي على أن تكون لها كرامتها فإني ورغم حرج الحديث
الشخصي أجيبك بأني أفعل أو أجتهد لأن أفعل، لكني من ناحية أخرى أحاول دائما أن
أؤكد لكل من تسألني المشورة أن أفضل وسيلة للحفاظ على كرامتها ألا تجرح هي كرامة
الآخرين أو مشاعرهم وألا تهينهم أو تمس أوتارهم الحساسة.. أو تحرضهم على عدم احترامها
والعدوان عليها بتجاوزها لآداب الخلاف معهم أو للخط الأحمر الذي يفقدها حصانتها
وخط دفاعها الأصيل عن نفسها وعن كرامتها.
فهذا
هو الطريق لأن تحتفظ كل زوجة بكرامتها .. ولا طريق سواه واستثنى من ذلك بالطبع
الحالات الشاذة التي لا يفلح معها اعتصام بآداب الخلاف ولا احترام للنفس.. وهي
حالات لا يصلح للتعامل معها سوى قانون العقوبات وشكرا
.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1994
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر