الطامة الكبرى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا شاب في التاسعة عشرة من
عمري .. تزوجت أمي وهي من أسرة عريقة من مدرس يكبرها بخمسة عشر عاما كانت مؤهلاته
هي أنه ميسور ماديا , وبعد ولادتي بعامين وبعد موجة الانفتاح وغلاء المعيشة لم
يستطيع ميراث والدي , الصمود لمواجهة أعباء الحياة فقرر السفر للعمل بإحدى الدول
العربية , ولم ترافقه أمي لعدم توافر المدارس الملائمة لي ولشقيقي الذي كان جنينا
في بطنها حينذاك .. وسافر أبي وتوالت سنوات غربته حتى اكتملت ستة عشر عاما , لم
نكن خلالها نراه إلا شهرا واحدا كل عام .. أي أننا لم نره طوال هذه السنين سوى 16
شهرا ولم يكن يربطنا بوالدي سوى الخطابات وشرائط التسجيل والهدايا والنقود .
كما قضينا معه بعض الأجازات في
دول أوروبية وعربية لتغيير الجو.
أما أمي فقد تولت تربيتنا وكانت
رائعة في ذلك فقد الحقتنا بأفضل المدارس وأرقاها ونمت فينا الهوايات الرياضية المختلفة وكنا نحن بدورنا من المتفوقين
والأوائل .. أما أقارب والدي فقد كانوا يقيمون في الريف ولم نكن نراهم إلا فى
الملمات فانقطعت صلتنا بهم .. وقد مضت حياتنا سعيدة وهادئة فأمي "بتربية
العائلات القديمة" تجيد العزف على البيانو والتطريز كما تجيد لغة أجنبية
وتضفي على الحياة في بيتنا ظلالا جميلة من الهدوء والرقي والجمال.
ثم وقعت الطامة الكبرى أو
الكارثة كما أسميها أنا وأخي، فقد فاجأنا أبي بأنه أنهى تعاقده في البلد العربي
وقرر الاستقرار فى مصر, وعاد أبي واستقر معنا بالطبع وفوجئت أنا وأخي بتصرفاته الغريبة
.. ففوجئنا بطريقته .. في الأكل .. وألفاظه .. وتصرفاته .. مع الخدم ومع أصدقائنا
.. فهو ينزل لشراء الجرائد بالبيجاما بحجة قرب المكان مع وجود من يمكن ارساله
لاحضارها , ويرفض الذهاب للنادي أو الخروج للنزهة وكل ما يرغب فيه هو الجلوس في
الفراش ومشاهدة التليفزيون , وكانت النتيجة ان حل الصمت فى بيتنا .. وتركتنا
الشغالة بعد سنوات من عملها لدينا لأنه صفعها ثم بدأ يتشاجر مع أمي ويتهمها بأنها
أفسدتنا فلم نعد نحبه ولأول مرة نشاهده يضرب أمي التي وقفت مذهولة ونهتنا عن
محاولة التدخل قائلة أنه مهما كان الأمر أبوكما ثم غادرت البيت إلى بيت جدي وتركتنا
معه .. ولم نطق الحياة معه بصراحة رغم أني حاولت مصادقته وبدأت استشيره في بعض أموري،
فإذا به يتخذ من كلامي مادة للسخرية والضحك ويقوم بنشر كل ما قلته على الملأ بغير
أن يهتم بإحراجي , ولا يفكر في الذهاب إلى أمي لاسترضائها .. وهو في منتهى الراحة
لأنه تعود على الحياة وحده .. لكني وشقيقي لا نعرف ماذا نفعل فنحن لا نتبادل معه
كلمة واحدة وهو بدوره لا يخاطبنا ولولا أن أمي قد تركت لنا بعض النقود لاضطررنا
لسؤاله .. كما أنه لا يسألنا من أين تنفقان .. وأمي لا تريد العودة بغير أن يذهب
لمصالحتها لأنها لو عادت دون ذلك كما تقول فسوف يتمادى أكثر وأكثر.
إننا في ورطة وهو يقرأ بابك ويسخر من هموم بعض
أصحاب المشاكل .. لكنه يحترم آراءك فأرجو أن تكتب له وترجوه أن يتصرف بأسلوب متحضر
إن لم يكن من أجله فمن أجل زوجته وأولاده.
ولــكــاتــب هــذه الـرسالة أقــول :
دعني أولا أسألك سؤالا هو كيف
يكون شعورك حين تكون قد اغتربت ستة عشر عاما كافحت خلالها في الغربة لتوفر لولديك
كل امكانيات الحياة الكريمة واصطحبتهما أثناءها أكثر من مرة فى رحلات خارجية لدول
أوروبية وعربية لترفه عنهما أو لتغيير الجو كما تقول , ثم تغيرت ظروف العمل وعدت
إلى بلادك فإذا بعودتك لأسرتك وبلدك تقابل من أحب الناس إليك بإعتبارها
"الطامة الكبرى" وإذا بك تواجه الاحساس المرير بأن ابنيك ينطويان على
احساس باطني قائل بأن زوجتك أرقى منك اجتماعيا وأعرق عائلة وأكثر تحضرا ورقيا وإن
سيادتك ولا مؤاخذة "جلف" لم تكن لتتزوج أمهما لولا أنك كنت ميسور الحال
وضاع مجد أسرة زوجتك فاضطرت لقبولك , وقد
كان ذلك مقبولا وأنت في الخارج ترسل المال بانتظام ولا تزعجنا إلا شهرا كل سنة ..
أما وقد عدت فياللفظاعة طريقة أكلك وألفاظك وتصرفاتك ونفورك من الذهاب إلى النادي,
وبالتالي فقد أصبح ولداك لا يجدان ما يقولانه لك وحل الصمت بينكم والضيق بهذا
الضيف الثقيل !
إنني أسألك سؤالا مباشرا وأتمنى
لو أجبت عنه إجابة صادقة لكي تقترب خطوة هائلة من إدراك جوهر المشكلة .. فأنا لا
أدافع عن تصرفات أبيك ولا أوافق على
معظمها إن كانت كما تروي حقا .. لكن أقول لك قبل ذلك أنكم قد قتلتم هذه الأب
معنويا آلاف المرات منذ عودته حتى الآن بهذه الروح المتأففة من تصرفاته وقبلها من
أهله حتى انقطعت بينكم كل صلة , وإن الرد الطبيعي على هذه الروح السخيفة عنده كان
هو العناد والتحدي والتمادي في كل ما تعتبرونه تصرفات غير لائقة بحياتكم المتحضرة
.
يا صديقي .. إذا أردتم جميعا
"نجاة من عقاب ربكم" وسلاما مع أبيكما فتخلصوا أولا من هذا الاحساس
الباطني بالاستعلاء عليه واستنكاف تصرفاته .. وابدأوه بالحب وبالاعتراف له بمكانته
كأب أوجدكما في الدنيا وكفل لكما الحياة الكريمة والتربية الممتازة التي تعترف
لأمك بفضلها عنها وهذا جميل ولكنك تتجاهل أيضا كل دور لأبيك فيها ولو كان حتى دور
الممول!
والتقارب بين طرفين هو مسئولية
مشتركة للجانبين وليس مسئولية جانب واحد منهما فقط فاشعراه بالحب والاحترام وبأن
حياته لم تضع عبثا .. وبأن له ولدين بارين تتواصل فيهما حياته وسوف تجدان لديه
الاستعداد للاستجابة لكل ما تطلبان إبتداء من استرضاء أمكما إلى تجنب ما يضايقكما
من تصرفات صغيرة .. فالحب يصنع المعجزات .. أما العناد وإحساس الأب بأنه قد خسر كل
شئ بعد رحلة العمر وأوله حب الزوجة واحترامها .. وحب الأبناء واحترامهم .. فانه
أيضا يصنع الكثير من الأهوال .. وإلى أن تفكرا معا في عمق المأساة التي تمثلانها
أنتما لهذا الأب .. فإني أرجو أن يعينكما على ذلك بالخطوة الأولى وهي استرضاء
زوجته واعادتها إلى بيتها وأسرتها .. وأرجو أن يستجيب لرجائي وشكرا له مقدما.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر