اكشف ظهرك ! .. من كتاب خاتم في إصبع القلب

اكشف ظهرك ! .. بقلم عبد الوهاب مطاوع "كتاب خاتم في إصبع القلب" 

اكشف ظهرك ! .. من كتاب خاتم في إصبع القلب


فقد ذاكرته فجأة وهو في ظروف عصيبة وهو بعيد عن أسرته فضاع في الزحام وجد نفسه بلا ذكريات ولا ماض ولا هوية .

فمن هو ومن أين جاء وإلى أين يتجه وماذا يحب في الحياة وماذا يكره ومن هم أصدقاؤه وأعداؤه ؟

لا يعرف ذاكرة بيضاء كأنه مازال جنينا في بطن أمه لم يخرج للحياة بعد وشخصية ملساء بلا علامات كأنها صفحة بيضاء لم تكتب تجارب الحياة فيها سطرا واحدا .

ولكن هذه السيدة الارستقراطية الثرثارة تلتقي به مصادفة وتعرف قصته وتقرر أن تستضيفه في بيتها وتساعده في التعرف على نفسه وأسرته ليس إشفاقا عليه ولا إعجابا بوسامته وشبابه وإنما طمعا في أن تحصل من أسرته التي لابد أنها تبحث عنه على مكافأة كبيرة في المستقبل وبعلاقاتها الاجتماعية العديدة تصطحبه إلى الحفلات وصالونات الأسر الراقية وتجمع بينه وبين شخصيات المدينة الهامة وعائلاتها عسى أن يعرفه احد أو يتذكر هو شيئا يبعث ذاكرته من العدم.

 

وأسر المدينة تتلهف على رؤية الشاب المجهول والتعرف عليه فكثير منها فقدت بعض أبنائها في الحرب الأخيرة والأمل يراود الجميع أن يكون هذا الشاب المجهول هو الابن المفقود ، والسيدة الارستقراطية ترفض أن تسلم باحتمال أن يكون الشاب ابنا لأسرة فقيرة وتأبى السماح للأسر البائسة التي سعت للتعرف عليه برؤيته وبحسها المادي تتجه إلى أغنى أسرة في المدينة التي فقدت ابنا لها في الحرب منذ بضع سنوات وتقدمه إليها فتصدق توقعاتها وتخفق قلوب أفراد الأسرة بالانفعال الصاخب عند رؤيته أن هو فعلا وما أجمل أن يعود إلى أسرته وأمه وبيته بعد الغياب لكن الشاب يتصفح وجوه الأم و الإخوة فلا تثير لديه أية انفعالات كأنما لم يرها من قبل أو التقى بها وتتمسك الأسرة بالفرصة الذهبية التي أتيحت لها وترفض السماح له بالانصراف في صحبة السيدة الارستقراطية , ويحاول أفرادها عبثا إقناعه بأنه واحد منهم ويتفننون في محاولات إحياء ذكرياته القديمة فيحدثونه عن أحداث الطفولة وأصدقاء الصبا ويصطحبونه إلى غرفة نومه الخالية ويتحايلون عليه ليمضى ليلته في فراشه ويحيطونه وهو نائم بكل الأشياء التي اعتاد رؤيتها قديما في غرفته الخاصة لكي يفتح عينه في الصباح فيجد نفسه في بيئته السابقة فتصحو ذاكرته من نومها .

 

ويصحو الشاب في اليوم التالي فلا يتوقف عند شيء له دلالة خاصة وتمعن ذاكرته في النسيان.

ويحس الشاب بعد قليل بالجهد المخلص الذي يبذله كل من حوله لإحياء ذاكرته فيبذل جهدا صادقا لمعرفة هذا الماضي المجهول ويروح يستجوب أفراد الأسرة والخدم عن وقائع هذه الحياة التي يقولون له إنه عاشها بينهم من قبل ويلح في السؤال حين يبدو على البعض التردد أو الحرج في الإفضاء إليه ببعض الأحداث و الوقائع فتجيئه الإجابات كالصدمات المتوالية .

 

يا الهي .. هل هو حقا هذا الشاب الذي يحكون عنه هل هو الشاب الذي تشاجر ذات مرة مع اقرب أصدقائه بسبب تنافسهما على جمال خادمة الأسرة , فدفع صديقه من أعلى السلم لينفرد باغتصابها وسقط الصديق في الهاوية وكسر عموده الفقري وأصيب بالشلل التام لبقية حياته ؟

 

وهل هو حقا ذلك الشاب الجامد القلب والمشاعر الذي كان يقسو على أمه وشقيقه الأكبر وأصدقائه وخدم البيت ويتلذذ بقتل الطيور الصغيرة وتعذيبها ويتحايل على إحدى صديقات أمه فيستولى على بعض نقودها اعتمادا على ثقتها في أمه؟

 

بل هل هو أيضا هذا "الوغد" الذي لم يتورع عن إغواء زوجة شقيقه الأكبر وانشأ معها علاقة آثمة فاحت رائحتها المخجلة في أوساط الأسرة كلها؟

إن زوجة أخيه تصر على انه هو .. وتقنعه بكل وسيلة ألا يتنصل من شخصيته القديمة وتطالبه بالبقاء مع الأسرة وعدم الرحيل , وتصارحه برغبتها في استئناف علاقتهما القديمة لأنها مازالت مفتونة به كما كانت في الأيام البعيدة وهو ينفر من هذه الصور البشعة التي تصدمه بها زوجة الأخ , ويصر على أنه ليس هذا الشاب البشع فتتحداه أن تثبت له أنه هو , وتطالبه بالكشف عن ظهره , ليتأكد من وجود أثر جرح قديم تحت كتفه الأيسر , فلقد كان عشيقها وهي تعرف تضاريس جسمه التي تخفيها الثياب الفاخرة ولا مجال للشك فيما تعرفه عنه وتتحداه أن يفعل فيستجيب للتحدي متمسكا بخيط الأمل الأخير في أن يكشف له الامتحان عن كذب ادعائها ويعري ظهره أمامها فيظهر أثر الجرح القديم في المرآة كالصفعة المدوية

 !

ويدقق الشاب النظر ذاهلا في المرآة ثم ينهار فجأة باكيا.

إنه هو فعلا ذلك الشاب الأناني , العابث القاسي الذي غدر بصديقه ولوث شرف أخيه ونهب مال صديقة أمه واغتصب خادمة الأسرة ولم يعد هناك مجال للإنكار وقد سلم الآن بأنه هذا الشاب لكن هل يريد أن يكونه مرة أخرى ؟ لا إنه لا يسعد باكتشاف نفسه على عكس ما توقع الجميع حين يستعيد ذاكرته ونفسه ولا يريد أن يكون ذلك لشاب مرة أخرى مهما كانت الإغراءات , فالشاب فاقد الذاكرة الذي كان منذ قليل أشرف كثيرا من هذا الوغد الذي أطل عليه الآن بوجهه القبيح من بئر الذكريات .

ولابد أن يتبرأ من نفسه القديمة ويقطع صلته بها , نعم سيقطع صلاته معها وسوف يهجر هذا البيت بكل ما فيه إلى غير رجعة وسيتنازل عما ورثه من مال وأملاك لأسرته وسيغادر بيت الأسرة كما جاء إليه بلا حقائب.

 

وينفذ الشاب الجديد قراره الجريء بإصرار عنيد ويستبسل في مقاومة زوجة أخيه التي سعت بكل وسيلة لاستبقائه بالإغراء أحيانا وبالتهديد بفضح علاقتهما القديمة في أحيان أخرى ويصمد أيضا لمقاومة ضعفه أمام شقيقه الأكبر الذي يطالبه بالبقاء ويعده بالصفح عما جرى بالماضي المخجل ؟

 

ويحزم أمره أخيرا ويغادر البيت والأسرة والماضي الملوث كله خفيفا بلا خطايا جديدة ولا متاع !

وتنتهي مسرحية مسافر بلا متاع الجميلة التي كتبها الكاتب المسرحي الفرنسي العبقري جان آنوى عام 1935 ورآها جمهور المسرح في باريس لأول مرة عام 1937 ثم رآها بعدها عشاق المسرح في معظم عواصم العالم الأخرى على مدى أكثر من 40 سنة حتى الآن .

 

ولقد قرأت هذه المسرحية أكثر من مرة فما من مرة بلغت فيها لوحتها الرابعة التي يكشف فيها بطلها " جاك رينو" عن ظهره ويرى حقيقة نفسه لأول مرة في المرآة ويجهش في البكاء حتى توقفت أمامها طويلا متفكرا وربما عزفت عن استكمال قراءة بقية المسرحية اكتفاء بهذا المشهد العبقري الذي اعتبره قمة الرواية وذروتها فلقد راح هذا الشاب يبحث عن نفسه ويستجوب أفراد أسرته والمحيطين به عنها فكان كلما ازداد معرفة بنفسه كلما ازداد نفورا منها وتنامي هذا النفور داخله إلى أن بلغ به النقطة الحاسمة التي قرر فيها أن ينفصل نهائيا عن هذه النفس الكريهة ويتبرأ منها .

إنها لحظة المواجهة الصادقة مع النفس التي يمكن أن تغير مجرى حياة الإنسان ونظرته للحياة وعلاقته بالآخرين

فمن منا يقدر عليها وعلى تحمل تبعاتها ؟

 

لقد كانت هناك عبارة مكتوبة باليونانية القديمة على واجهة معبد دلفي بأثينا تقول "أعرف نفسك" .. وجاء الفيلسوف سقراط فجعل منها شعارا لفلسفته وحاول جاهدا أن يعرف نفسه وأن يساعد الآخرين من حوله على أن يعرفوا أنفسهم وبعد قرون عديدة رفع علماء التحليل النفسي نفس الشعار وقالوا: إن معرفة النفس والصدق معها بداية لشفائها من كثير من متاعبها وبداية ضرورية لطريق الصحة النفسية .

ثم أخيرا جاء بطل مسرحية انوى الجميلة هذه وسعى لان يعرف نفسه فعرفها على حقيقتها وأنكرها وقطع كل صلة له بها وبعالمها القديم وتحمل تبعات المواجهة بشجاعة .

فهل نستطيع نحن أيضا أن نتحمل هذه المخاطرة ؟

 

إنني شخصيا أؤمن بأن الهدف النبيل يستحق عناء المخاطرة للوصول إليه وأؤمن بأن من واجب كل إنسان تجاه نفسه وتجاه الحياة أن يكشف عن ظهره في المرآة ويتحسسه بحثا عن أثار الجروح القديمة والجديدة فيه وأن يرضى عن نفسه ويزداد تمسكا بها وبأسلوب حياته إذا جاءت صورته في المرآة سوية أو قريبة من الطبيعية أو إذا كانت أثار الجروح القديمة في ظهره قد اختفت وتحولت بالزمن والندم الصادق إلى ندوب صغيرة لا ترى بالعين المجردة .

 

وارى من واجبه أيضا إذا عكست المرآة أمام عينيه كثيرا مما يخجل أن يعرفه عنه الآخرون أن يفعل ما فعله بطل المسرحية فيزداد نفورا من نفسه كلما ازداد معرفة بها بشرط أن يقوده ذلك في النهاية إلى لحظة الاختيار الحاسمة والى اتخاذ القرار الشجاع عند الضرورة "بالسفر" إلى حياة جديدة بلا حقائب ولا متاع سوى الرغبة الصادقة في التطهر من أثقال الماضي وأخطائه.

فمن منا يستطيع حقا أن يفعل ذلك ؟

 ·       نشرت في كتاب خاتم في إصبع القلب

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات