الحلم الضائع .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
أنا سيدة شابة في
الثانية والثلاثين من عمري نشأت بين أب فاضل كريم وأم طيبة وإن كانت عصبية بعض
الشيء وثلاثة أخوة.. ونحن أسرة متوسطة ميسورة الحال من الناحية المادية, ولقد
تفتح جمالي مبكرا ولفت الأنظار إلي ومنذ بلغت سن الثالثة عشرة صارحتني أمي بأن ابن
إحدى صديقاتها وهو جار لنا قد جاء يطلب يدي .. وفرحت كطفلة بالنبأ وسعدت بأنني
سوف أرتدي فستان السهرة ودبلة الخطبة.. لكن أبي ثار ورفض هذه الخطبة لأنني مازلت
طفلة ولم تيأس أمي التي تؤمن بنظرية زواج الابنة وهي صغيرة واستعانت عليه بالجيران
والأقارب إلى أن وافق على مضض وتمت الخطبة.. ولك أن تتخيل حال طفلة عمرها ثلاث
عشرة سنة وهي مخطوبة لشاب عمره 25عاما ولا تعرف ماذا تفعل لتثبت لنفسها وله أنها
قد أصبحت أنثى .. لقد لطخت وجهي بالمساحيق وتعلمت الكلام بدلال.. وتصنعت المشي
كالبنات وكل ذلك وأنا مازلت تلميذة في الإعدادية وكانت النتيجة أنني نجحت بمجموع
ضعيف ولم أجد سوى مدرسة متوسطة لمواصلة تعليمي بها.
والتحقت بالمدرسة وحدثت بعض المشاكل التي انتهت
بفسخ الخطبة بعد ثلاث سنوات وأنا في السادسة عشرة, وما أن انتهت الخطبة حتى
أحضرت أمي لي على الفور عريسا ثانيا رفضه أبي ثم أحضرت لي عريسا ثالثا وأصر أبي
على ألا أرتبط بأحد إلا بعد حصولي على شهادتي المتوسطة.. وتعرفت على أسرة ورشحت
لي ابنهم الذي يبلغ من العمر36 عاما وأصرت عليه.. في حين رفض أبي ورشح لي ابن
عمي الطالب بكلية العلوم وأصر عليه وبالفعل خطبت له فلم تطل الخطبة أكثر من ثلاثة
شهور ثم فسخت وهنا سارعت أمي بإحضار العريس الذي تعرفت بأسرته مؤخرا, واستمسكت
به وتم الزواج في أقل من شهرين وأقمنا في شقة بجوار أسرته.. ولم يمض شهران حتى
كان قد طردني من البيت بملابس النوم ورجعت إلى أسرتي وثمرة الزواج القصير تنمو في
أحشائي.
وكان كل ما سمعته
من أمي بعد عودتي باكية هو ألا أهتم بما حدث وأنني سوف أتزوج من هو سيده وجاءت
ابنتي للحياة وأنا في التاسعة عشرة وتركت طفلتي مع أمي وخرجت إلى العمل وفي داخلي
ثورة وتمرد على كل شيء والتحقت بإحدى شركات المقاولات وتعرفت فيها بمهندس عمره 27
عاما فأحبني وتقدم لخطبتي بعد كفاح مع أهله الذين قبلوا بي على مضض لأني مطلقة
وعندي طفلة ولا عجب في ذلك فالعروس تكون في قمة عزة نفسها وكبريائها وهي على
عذريتها وبالرغم من حب زوجي لي إلا أنه لم ينس أبدا أنني مطلقة, وطلب مني بعد
الارتباط ألا أخبر أحدا من أقاربه أو زملائه أو جيرانه بأنني كنت متزوجة قبله.
وقبل أن نتزوج بأيام أكد لي زوجي أن ابنتي ستكون موضع رعايته واهتمامه لكنه طلب
مني أن أتركها لدى أمي خلال الشهر الأول من الزواج حتى يسعد بي في البداية ثم
نضمها إلينا وفعلت ذلك وبعد انتهاء الشهر طلبت منه أن يسمح لي بإحضارها لتحيا معي
فرفض ذلك بإصرار ولم يقبل أي نقاش حول ذلك وسانده أهله في موقفه. ووصل به الحال
أن خيرني بين أن أقيم معه بدون ابنتي وبين أن أذهب أنا للإقامة معها عند أمي.
وخشيت من أن أواجه
الفشل للمرة الثانية في حياتي فسكت على مضض.. واستمهلت أمي التي تضيق برعاية
طفلتي بعض الوقت إلى أن أنجح في إقناع زوجي, وتحملت دموع الطفلة.. وصراخها
كلما غادرتها عائدة إلى بيت زوجي وكلما حاولت الحديث معه في هذا الأمر تشدد في
الرفض إلى أن عرض علي ذات يوم أن أجعل إقامتي الأساسية في بيت أبي مع ابنتي وأن
أقضي معه يومي الخميس والجمعة فقط كل أسبوع.. وقبلت بذلك مضطرة.. ومضت الأيام
عاما بعد عام وأنا أعيش أياما هنا وأياما هناك.. أو أعيش مع زوجي وأذهب كل يوم
إلى ابنتي إلى أن حملت وأنجبت طفلا وثقلت علي الرحلات المستمرة.. ثم أنجبت طفلا
آخر فقررت التوقف عن هذه الرحلة الدائمة ورجوته من جديد أن يسمح لي بضم ابنتي إلي
فرفض بعناد لا يرحم.
فإذا سألتني وأين والدها من كل ذلك, أجبتك
بأنه قد تزوج بعدي مرتين وأنجب في كل زيجة وطرده والده من بيته فأقام مع أهل زوجته
في مكان ضيق لا يتسع لقدم جديدة.
والمشكلة الآن يا سيدي هي أن ابنتي هذه عمرها الآن 13 عاما وتعيش مع أبي وأمي وقد
أصبحت في مرحلة خطرة.. وأمي تشكو منها ومن تصرفاتها وتتعامل معها بعصبية شديدة
وتسبها بأقذع الشتائم وتقول لي حين أعترض على ذلك إنه إذا لم تعجبني طريقتها معها
فلآخذها للإقامة معي, والبنت نتيجة لغياب دور الأب والأم في حياتها تحب ابن
الجيران وترسل له خطابات تكتب فيها كلاما كثيرا يدور كله حول الحلم الضائع الذي
حرمت منه في أن يكون لها بيت وأم وأب وأخوة كبقية البشر وتطالبه بألا يتخلى عنها
كما تخلت الدنيا كلها عنها!
وحين عرفت بذلك تحدثت إليها برفق وقلت لها إنها صغيرة على هذا ولابد لها من أن
تركز اهتمامها على دراستها وتؤجل الحب إلى مرحلة أخرى من العمر حين تكبر وتنضج
وكما شكت لي أمي من أنها أخذت مبلغ 400 جنيه من درج أبي وأنفقتها خلال أسبوعين على
الشيكولاتة ودعوة صديقاتها في المطاعم لكي تشعر بأنها مميزة عنهم .
وشعرت باختناق
وسددت لأمي بعض هذا المبلغ.. وحرت ماذا أفعل وأنا وحيدة في هذا الأمر مع أني
متزوجة! إن زوجي فيما عدا موقفه من ابنتي زوج طيب ويحبني وكريم معي ومع الأولاد
ولا يبخل علينا بشيء.. لكن المشكلة الوحيدة هي رفضه لابنتي وعدم حبه لها وإصراره
على ألا تقيم معنا لكي أرعاها وأحميها من مخاطر المرحلة التي تعيشها.. وأنا أريد
أن أنقذها وأعبر بها إلى بر الأمان فماذا أفعل يا سيدي؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
الزوج المحب حقا هو الذي لا يضيق بمن تنتسب إلى شريكة حياته برباط أبدي ولا ينكص عن إعانة زوجته على حماية ابنتها من مخاطر الطريق, ولو تحمل هو في سبيل ذلك بعض العناء .. ليس فقط عملا بمبدأ أن من أحب الشجرة أحب كل أغصانها! وإنما أيضا لأن جفاف فرع من فروعها بسبب النكوص عن رعايته في الوقت المناسب إنما يضعف الشجرة كلها ويفقدها بعض بهائها ورونقها وحيويتها .وابنتك هذه إحدى
أغصان شجرتك التي لا انفصام لها عنك مهما كان من أمرها كما أن ابنيك من زوجك
الحالي هما فرعان غاليان من فروع نفس الشجرة ورعاية ابنتك وإعانتها على أمرها
وحمايتها من مخاطر الضياع والانفلات, هي حماية في نفس الوقت لهذين الفرعين
الغاليين اللذين لن يسعدا أبدا بحال أختهما إذا أفلت زمامها أو إذا ترسخت لديها
بعض سلوكياتها الخاطئة حتى استحال إصلاحها كما أن زوجك لا يحسن إليك وحدك في
الحقيقة إذا هو تنازل عن معارضته الصارمة بضم ابنتك إليك في هذه السن الحرجة,
وإنما يحسن كذلك إلى ابنيه اللذين سيسوؤهما كثيرا في المستقبل أن تكون لهما أخت
خارج نطاق السيطرة, ويستفيدان كثيرا عائليا وإنسانيا إذا نجحت الجهود لاحتواء
تجاوزات ابنتك والعبور بها إلى شاطئ الأمان.. ولأن تكون لهما في المستقبل أخت
فاضلة عطوف تتبادل معهما الحب الأخوي والاهتمام, خير لها كثيرا من أن تكون لهما
أخت تمثل بالنسبة لهما عبئا من الناحية الأخلاقية, يضيقان بها ويتكتمان أمرها .
فكيف غاب كل ذلك
عن زوجك الطيب وهو يتمسك بموقفه العنيد من عدم السماح لهذه الابنة بأن تحيا في
رعاية أمها ووسط أخويها؟
إنها في حكم الابنة اليتيمة لغياب الأب عنها وعجزه عن ضمها إليه أو رعايتها فلماذا
يحرم نفسه من فضل رعاية هذه الابنة اليتيمة معنويا حتى ولو كان لها أب على قيد
الحياة.
إن أمير الشعراء أحمد شوقي يقول:
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أبا مشغولا
وليس استجداؤها لابن الجيران ألا يتخلى عنها كما تخلى عنها الجميع ترجمة مؤلمة
لإحساسها العميق بالنبذ العاطفي وبالضياع. وليس اجتراؤها على نقود جدها وإنفاقها
على صديقاتها سوى تعبير عن الحاجة إلى الشعور بالإعزاز المفتقد بها لدى أقرب الناس
إليها وهو سلوك مألوف لدى الصغار الذين يمدون أيديهم إلى أشياء الغير بدوافع نفسية
وينفقون ما يستولون عليه دائما على أصدقاء يطلبون لديهم القبول وممارسة الإحساس
بالجدارة بينهم, فكأنما يشترون منهم بما يسخون به عليهم الحب والاهتمام الذي
يفتقدونه في محيطهم العائلي .
فحدثي زوجك من
جديد يا سيدتي عن عمق احتياج ابنتك إليك في هذه المرحلة الحرجة من العمر..
واطلبي منه أن يأذن لك بضمها إليك ولو خلال هذه الفترة على الأقل إلي أن تعبري بها
إلى شاطئ الأمان. وبادري بتعميق الصلة الأخوية بين ابنيك وبين أختهما واغرسي في
نفسيهما الشعور بأن لهما أختا تحتاج إليهما ويحتاجان إليها بشدة وحثي كلا منهما على
الاتصال بها يوميا وزيارتها ودعوتها لزيارتهما كل حين وقضاء أوقات كافية معهما
لتعميق الروابط بينهم.. ولسوف يكون هذان الابنان هما أكبر العون لك على إقناع
أبيهما بحاجتهما إلى هذه الأخت.. الآن وفي المستقبل.
وإلى أن يتحقق ذلك
ضاعفي من اهتمامك بابنتك ومن الأوقات التي تقضينها معها وعالجي سلوكها المنحرف
فيما يتعلق بالنقود والكذب والتعلق بابن الجيران وهي مازالت طفلة في الثالثة عشرة
بتلبية احتياجاتها النفسية والعاطفية التي يعكسها تحسرها على الحلم الضائع في أن
تكون لها أم وأب وأسرة وبيت وزيدي من جرعة الحنان التي تقدمينها لها, وادعمي
ثقتها في نفسها وفي جدارتها بأن تكون موضع حب واهتمام أمها وأخويها وجديها والجميع
وقاومي لديها الشعور بالنبذ وتخلي الجميع عنها.. وأشركيها في بعض المسئوليات
العائلية خاصة من الناحية المادية لإشعارها بأنها أهل للثقة بالرغم مما حدث وحتى
تتردد فيما بعد في الإقدام على سلوك يتناقض مع هذه الثقة أو يشعرها بأنها تخونها.
ثم واصلي خلال ذلك
وبعده الجهاد مع زوجك إلى أن يغير موقفه منها ويتعامل معها كابنة أو ربيبة له
يعينك على أمرك معها ويساعدها على أن تخرج إلى الحياة فتاة ناضجة سوية وأختا فاضلة
لابنيه وليس العكس بإذن الله.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر