شروط الاختيار .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003
نشأت في أسرة مكونة من أب
وأم وثلاثة أبناء ذكور أصغرهم أنا, فوالدي كان يعمل بالتجارة والوالدة ربة منزل
متدينة وصبورة وترعى والدي المسن بعد وفاة الزوجة الأولى لوالدي, حيث
كان يكبر والدتي, وبعد سنوات ليست بكثيرة أصيب والدي بالشلل ورعته أمي بإخلاص
حتى توفي بعد ثلاث سنوات ولقد تزوج أشقائي وهم يعيشون حياتهم الخاصة.
أما أنا فلقد ظللت أعيش مع
والدتي رافضا الزواج حتى أقوم برعايتها ثم ألحت علي والدتي كثيرا أن أتزوج لكي
تفرح بأحفادها مني قبل وفاتها.
وفي إحدى المرات دخلت أحد
محال البقالة لأشتري بعض احتياجاتي المنزلية, ولاحظت عند خروجي أنني أخذت الكيس
الخطأ.. وأنه يخص سيدة كانت مشغولة في دفع الحساب, فرجعت مسرعا
وقدمت لها الكيس معتذرا, وأثناء حديثي معها عرفت أن البنت التي معها هي ابنتها
فعرفتها بنفسي ووجدتني أصارحها برغبتي في الزواج من ابنتها, فقالت إن ذلك يتوقف
على موافقة والدها, وفي اليوم التالي ذهبت إلى منزل الأسرة وفاتحت والدها في
الأمر, فكان رده أنه يحتاج إلى مهله لمدة 15 يوما على أن أحضر المرة القادمة
بصحبة والدتي, وبعد انقضاء المدة المقررة توجهنا للأسرة في الميعاد المحدد
فقوبلنا بالترحاب وتحدد موعد لإتمام الزفاف, وكم كانت فرحة أمي بهذا الخبر وكانت
الفتاة على قدر من الجمال وتحمل مؤهلا متوسطا, وفي باديء الأمر كانت والدتي ترغب
في أن تكون الفتاة في نفس المستوى من حيث التعليم العالي والوظيفة خاصة أنها تعمل
في وظيفة متوسطة في إحدى الإدارات التعليمية ولكن بعد المناقشة اقتنعت الوالدة
وباركت هذا الزواج وكان حفل الزفاف بسيطا ولكن ممتعا للغاية وذلك لحضور الأهل
والأحباب والأصدقاء.
وأشارت علي والدتي أن أعيش
مع زوجتي في شقة مستقلة فرفضت في باديء الأمر, لأن والدتي مسنة ويجب أن تعيش
معنا ولكني بعد الإلحاح وافقت على أن نزورها من وقت لآخر وفعلا تزوجنا في شقة
مستقلة ومضت حياتنا في هدوء وإن كنا في بعض الأحيان نختلف بسبب غيرة زوجتي والشك القاتل
لكني كنت أتغلب على هذه المشكلة, وبعد سنتين كانت زوجتي في أيامها الأخيرة للحمل
ووالدتي في غاية السعادة لأنها سترى حفيدها وكانت تقيم معنا لرعاية زوجتي أثناء
الولادة, وفي إحدى الليالي شعرت زوجتي بآلام الولادة وكانت والدتي نائمة فرأيت
أن اتركها نائمة ونذهب إلى المستشفى لان والدتي كانت تشعر بآلام في القلب, وبعد
وصولنا إلى المستشفى تمت الولادة بسلام وكان المولود جميلا ففرحنا بقدومه, وكم
كانت فرحتي عظيمة وعندما دخلنا الشقة بعد العودة من المستشفى وجدنا الأنوار مطفأة
فعرفنا أن والدتي مازالت نائمة, ولكن مع طول الوقت ذهبت لأزف لها البشرى لكي
تفرح معنا ولكن مع الأسف وجدتها قد فارقت الحياة فتألمت كثيرا لوفاة والدتي قبل أن
ترى حفيدها مني.
ومضت الأيام ورزقنا بمولودة جميلة, وكانت
فرحتنا أيضا عظيمة لكننا دعونا الله سبحانه وتعالى ألا تحدث كارثة أخرى كما حدثت
كارثة وفاة أمي يوم مولد ابني.. واستجاب الله لدعائنا ومضت حياتنا في طريقها
وكبر الابنان وتخرج ابني في كلية الهندسة وتخرجت ابنتي في كلية الصيدلية وشعرنا
بأن السماء تبتسم لنا وان فضل الله علينا عظيم. أما الابن الأكبر فلقد تعرف على
زميلة له وتزوجها بعد موافقتنا وسافر معها إلى محافظة أخرى حيث تقطن أسرة زوجته,
وتعرف أحد الأطباء الشباب على الابنة عندما زارته في العيادة للعلاج من آلام في
أسنانها وبعد فترة قصيرة تقدم لخطبتها وتم تحديد موعد الزفاف بعد ثلاثة أشهر,
وفي أحد الأيام المشئومة طلبت ابنتي الخروج لشراء فستان الزفاف وبعد شراء الفستان
ركبت سيارتها الصغيرة عائدة إلى منزلها وهي في قمة الابتهاج فاختلت عجلة القيادة
وانقلبت السيارة عدة مرات, وعند سماعنا هذا الخبر توجهنا إلى المستشفى التي ترقد
به فوجدناها مازالت تمسك بالفستان الملطخ بالدماء وفاضت روحها إلى ربها وأصبح
ليلنا شديد السواد وفارق النوم
أعيننا, وكيف ننام وكلما حاولنا ذلك طالعتنا صورة ابنتنا وهي تحتضن فستانها
الملطخ بالدم بدل أن نراها وهي ترتديه في يوم الزفاف.
لقد أصيبت أمها بصدمة عصبية واستسلمت للمرض ورحت
أصلي إلى الله أن ينقذ زوجتي خاصة وقد أصبحت سندي الوحيد في الحياة وقد بلغت من
العمر الخامسة والستين, وبعد مضي عام على وفاة ابنتي لاحظت أن صحة زوجتي في
تدهور.. وتذرف الدمع السخين كل ليلة, فرحت أشجعها على الصبر والصلاة لكن قواها
خارت تماما, وفي إحدى الليالي وجدتها ساهمة وتتكلم بصعوبة وطلبت مني الدواء
فتوجهت إلى الصيدلية لإحضاره وبعد العودة أعطيتها قرص الدواء فأمسكته بيدها ورفعته
إلى فمها ثم توقفت فجأة فسقط القرص من يدها, وفاضت روحها إلى بارئها, وبذلك
أصبحت وحيدا لا أعرف ليلي من نهاري وأحيانا أتصور إنها تناديني كالمعتاد فأقوم من
نومي لتلبية النداء فأتراجع ثانية, وكان يخيل إلي أنها تناديني وتطلب الدواء.
وعندما اخرج من المنزل وأعود ثانية يخيل إلي
إنها في استقبالي وأحيانا أقيم بالمنزل طول النهار فأشعر كأني في معتقل أو مسجون
لا أجد من أتحدث معه, وفي بعض الأحيان أمسك صورة ابنتي وصورة زوجتي وابكي على ما
وصل إليه حالي ووحدتي فتنزل دموعي ساخنة, ولأنني أحتاج لمن يرعاني في هذه السن
خاصة وأني وحيد فقد فكرت في الزواج من زوجة مناسبة لي في السن, وعرضت الأمر على
ابني الذي يعيش مع زوجته وأولاده في محافظة أخرى وكنت أطن أنه سيرحب بالفكرة بل وسيكون
هو الباديء بها, وأول من يفكر في هذا الموضوع, ولكن رده وقع علي وقع الصاعقة
وهو أنه لا يرضى ببديلة لأمه ولا بأن أتزوج من سيدة قد تكون مريضة فأقوم بتمريضها
بدلا من أن ترعاني, أو يكون لها أقارب لا أرتاح إليهم, وكلها كما ترى حجج
واهية.. فهل يرضيك هذا ؟
وهل يرضيك ألا يقدر ابني
الوحيد ظروفي ووحدتي وحاجتي لمن يرعاني .. وبماذا تنصحني أن أفعل؟!
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
رد الفعل المبدئي لدى معظم الأبناء تجاه رغبة أبيهم في الزواج بعد رحيل أمهم.. هو النفور من الفكرة.. واستبشاع أن تحل امرأة أخرى محل أمهم في فراش أبيهم أو في مملكتها السابقة وهي بيتها.لكن الرحماء منهم يتجاوزون سريعا هذه المشاعر العاطفية ويعيدون التفكير في الأمر في ضوء ظروف أبيهم ومدى احتياجه للزواج.. ورغبتهم في إسعاده وإعانته على أن يحيا ما تبقى له من العمر آمنا مطمئنا, فإذا تشددوا في شيء بعد ذلك ففي تحري أن تكون الزوجة المرشحة لشغل موقع أمهم في حياة أبيهم سيدة فاضلة ومقاربة له في السن وراغبة في الحياة العائلية الآمنة.. وليست لها أطماع مادية ولا نيات عدوانية تجاه أبناء الزوج بحيث يكون ارتباطها بالأب جامعا للأبناء حوله وليس مفرقا ولا مبعدا لهم عنه.. وبحيث تكون مشاركتها للأب رحلة حياته أيضا تعويضا له عن وحدته وتعاسته بعد فقدان الرفيق, وليست جحيما يضاعف من حسرته علي حياته السابقة.
وأحسب أن ابنك قد تحفظ على رغبتك في الزواج لكل هذه الأسباب أو لبعضها.. كما أحسب أيضا أنه يستبعد وجود الزوجة الملائمة لك من ناحية السن والأسرة والمستوى العائلي.. وأنت تقترب في ظني من السبعين, لهذا فأني أرجو أن تأخذ تحفظ ابنك على رغبتك في الزواج من منطلق حسن النية والإشفاق عليك من أن تتعرض للقلاقل والمتاعب وأنت في هذه المرحلة من العمر.
كما أرجو أن تعيد تقييم موقفك وظروفك وأوضاعك الصحية, فإذا انتهيت إلى أنك في حاجة حقيقية وليست عابره للزواج وانك لا تصبر على نفسك ولا على وحدتك وتحتاج بالفعل إلى رفقة جديدة تعوضك فقدان شريكه العمر, فراجع ابنك في تحفظه على رغبتك وطالبه بما لك عليه من حق الأب على الابن, أن يعينك على تلبية رغبتك وأن يبذل جهدا مخلصا في البحث عن الشريكة الملائمه لك.
وفي تحري ظروفها والتأكد من صلاحيتها للارتباط بك, بل لعله يكون من الأفضل أن تفوضه هو نفسه في الاختيار, لكي يكون اختياره نافيا للهواجس التي تراوده بشأن شريكة المستقبل, ومهدئا لخواطره بشأن ما يتوقعه من متاعب أو عناء في حالة ارتباطك بمن لا تؤتمن عليك.. أو لا تليق بك.. والسلام.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر