الفرصة الثانية .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
أنا سيدة بدأت
حياتي الزوجية وأنا طالبة بالسنة الثانية الجامعية فارتبطت بمهندس شاب كان في
بداية طريقه وتحملت معه صعوبات البداية بكل ما في الكلمة من معان, وعشت معه حياة
هادئة لم يكن ينقصها شيء سوى أننا لم ننجب أطفالا, وقد قمت بإجراء التحاليل
اللازمة فكانت مطمئنة بالنسبة لي وقام هو بإجرائها فكشفت عن درجة من العجز تمنعه
من الإنجاب, لكنني لم أتوقف عند هذا الأمر كثيرا بالرغم من حبي الشديد للأطفال
ورغبتي الجارفة في الأمومة فقد رضيت بحياتي مع زوجي وساعد على ذلك حسن عشرته لي
ومضت بنا الحياة هادئة ثم أصيب زوجي بمرض السكر وبدأ يخضع للعلاج منه, وبعد فترة
أخرى تطور الأمر وتبين أنه مصاب أيضا بتليف الكبد وبدأت معه رحلة العلاج الصعبة
وحدي .. فزوجي يتيم الأبوين وقد نشأ في رعاية أخت وحيدة له لم ترع الله فيه,
وكانت تميز أبناءها عليه وهو صغير إلى أن خرج للحياة, فكانت علاقته بها سيئة من
قبل زواجي به واستمرت كذلك بعد الزواج .. وتحمل زوجي مرضه في صبر وكنت آخذه في
حضني كلما هاجمته نوبة النزيف كما لو كان ابنا لي.. وأستعين ببواب العمارة على
نقله إلى المستشفى لإجراء الإسعافات اللازمة له وكانت النوبات تهاجمه كثيرا في أي
وقت من الليل أو النهار, ولابد من الاعتماد على نفسي وحدها في إسعافه لأنه إنسان
وحيد.
وخلال تلك الفترة
كنت قد نجحت في الحصول على شقة تمليك في حي راق بفضل ما ادخرته من مرتبينا ومما
دبرته عن طريق الجمعيات مع الأهل .. واستمرت رحلة المرض القاسية خمس سنوات كاملة
تحملت فيها الكثير والكثير.. ووقفت خلالها مع زوجي في أقسى الظروف, ثم وصلت
الرحلة إلى نهايتها الحزينة ورحل زوجي رحمه الله عن الحياة بعد 18 عاما من
الزواج وعمري 38 عاما, ولا أملك من حطام الدنيا سوى هذه الشقة التي أدفع بقية
ثمنها على أقساط, وبعد الوفاة ظهرت شقيقة زوجي وأبناؤها يطالبون بنصيبهم من
الميراث بالرغم من غيابهم عنه معظم سنوات المرض الخمس, حيث كانوا لا يزورونه إلا
على فترات متباعدة وعند اشتداد المرض عليه فقط, وبفضل مبلغ من المال كان زوجي قد
خصصه لي في جهة عمله لإدراكه أنني لم أخص نفسي بمرتبي طوال 18 عاما, استطعت أن
أؤدي إلى أخته وأبنائها حقهم في ميراثه وأحتفظ بشقتي التي شقيت كثيرا للحصول عليها.
وانتقلت أمي
للإقامة معي في الشقة نظرا لوفاة أبي, واعتمدت على معاشي ودخل أمي في توفير حياة
كريمة لنا وانطويت على نفسي ورفضت تكرار تجربة الزواج مرة أخرى في حياتي لشكي في
أن تجمعني الأقدار ذات يوم بزوج كزوجي الراحل.. فلقد كان رحمه الله بالرغم من
مرضه يحسن عشرتي ودفعت قصتي مع زوجي ووقوفي إلى جواره في مرضه كثيرين للتقدم لي
حتى وأنا مازلت في فترة العدة, لكن الخوف الشديد من تكرار تجربة الزواج والخوف من التعاسة سيطرا
علي فاعتذرت لمن تقدموا لي وتفرغت لحياتي .. ومضى عام ونصف العام على ترملي ثم
تقدم لي أرمل عانى معاناتي نفسها مع زوجته الراحلة حيث كانت مريضة بالمرض اللعين
ووقف هو معها في مرضها بكل الحب والحنان كما وقفت مع زوجي في مرضه, وسافر معها
للعلاج بالخارج وضحى من أجلها بالكثير بالرغم من حساسية مركزه وأعبائه الثقال ..
فإذا بي أشعر بارتياح غريب له وكأنني أعرفه منذ زمن بعيد.. وإذا به يشعر هو أيضا
تجاهي بمثل هذا الارتياح العجيب, ووجدت نفسي أرحب به على الفور وخطبت له وساورني
الخوف خلال فترة الخطبة بشأن أبنائه, لأنهم كبار تشكلت شخصياتهم بالفعل..
وليسوا أطفالا صغارا يمكن احتواؤهم بسهولة حيث أنهم ولدان أكبرهما متزوج والآخر في
المرحلة الجامعية.. وبنت بالمرحلة الثانوية.. غير أنني استجمعت شجاعتي واعتزمت
أن أبذل كل ما في وسعي لاجتذابهم إلي بالمعاملة الأمينة والحنان, وحاولت أن أعرف
المدخل المناسب لكل واحد منهم .. لكي أدخل إلى عقله وقلبه منه وتم زواجنا بعد 45
يوما فقط من تعارفنا وكلي أمل في حياتي الجديدة, فإذا بي أجد في زوجي أكرمه الله
كل ما تتمناه الزوجة في زوجها من صفات كريمة من التدين إلى الحنان وتقدير الزوجة
واحتوائه لها والحرص علي قضاء الإجازة الأسبوعية معها إلى العدل في المعاملة
والحسم, وإذا بي أجدني بعد قليل أحيا أسعد أيام عمري بالرغم من بعض المشاكل
الصغيرة التي نشأت بيني وبين ابنته.. وبفضل حزم زوجي وعدله مع الجميع.. وبفضل
تسامحي وإدراكي أنني لو كنت قد أنجبت من
زوجي الأول يرحمه الله لكانت ابنتي في مثل عمرها الآن.. زالت المشاكل بيننا إلى
حد كبير وواصلت محاولاتي المستميتة معها لاحتوائها.
أما ابنه فإنه
يدرس بإحدى الكليات العسكرية وحين يرجع في عطلته أهتم به وأسعده وأشعره بأن كل ما
في الشقة ملك له, والآن وبعد مرور عام ونصف العام على زواجي نعيش كلنا معا كأسرة
واحدة بفضل زوجي الذي أعتبره هدية السماء مكافأة لي على صبري وقوة احتمالي مع زوجي
الراحل. وسوف نقوم بأداء فريضة الحج معا هذا العام بإذن الله, ولقد رويت لك
قصتي لكي أقول لكل سيدة مطلقة أو أرملة تخشى تكرار تجربة الزواج خوفا من ألا تجد
زوجا مثل زوجها السابق إذا كانت تجربتها السابقة معه سعيدة, أو خوفا أن تتكرر
معاناتها القديمة في زواجها الجديد إذا كانت تجربتها السابقة تعيسة ـ إن من واجبها
أن تجرب حظها مرة أخرى .. بشرط أن تحسن الاختيار فالزيجة الثانية كثيرا ما تكون
أسعد من الأولي مادامت أرضت الزوجة ربها في الزواج الأول ولم تقصر فيه.. والسلام.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
من حق كل إنسان أن تتاح له فرصة ثانية للسعادة إذا غابت شمسها ذات يوم عن حياته ومن واجبه تجاه نفسه ألا يسمح للخوف من الغد بأن يشل إرادته ويحرمه من الثمار الطيبة التي تعرض له فيتقاعس عن قطفها خوفا من احتمال الفشل أو التعاسة. فالسعادة المشروعة هدف جليل يستحق المخاطرة من أجله, وكل ما ينصح به العقلاء في هذا الشأن هو أن تكون المخاطرة مأمونة بقدر الإمكان.. بمعنى ألا تتعارض تعارضا صارخا مع أحكام العقل, وأن تتوافر فيها الشروط التي ترجح احتمال النجاح على احتمالات الفشل, مع التسليم دائما بأن كل مخاطرة هي في النهاية مغامرة تحتمل النجاح كما تحتمل الفشل.. ومن واجبنا أن نقبل بتبعاتها راضين أملا في نيل ثمارها المرجوة.. بل إن عالم النفس الأمريكي وليم جيمس يقول لنا إن احتمال النجاح يضفي على الكفاح لبلوغه نبلا يسوغ لنا القبول بالمخاطرة وتحمل تبعاتها, ويقول عالم آخر إنك إن حاولت شيئا وفشلت في نيله فإن حالك يكون أفضل منك لو أنك لم تفعل شيئا البتة لتحقيق أهدافك.. أو لنيل ما تتطلع إليه من السعادة المشروعة, ذلك أن الخوف من التعاسة أو الفشل يضيع فرصا دانية للسعادة قد لا نلتقي بها مرة أخرى.وفي هذا الشأن يقول لنا شاعر الإنجليزية الأعظم شكسبير إن الشكوك والمخاوف هي ألد أعدائنا لأنها تحول بيننا وبين الثمار التي كنا جديرين بنيلها لو أننا فقط قد حاولنا ذلك.
وقبل كل ذلك وبعده تأتي أهمية الأمل الدائم في رحمة الله والتطلع الأبدي لترفقه بنا وجميل الظن بمن يوزع الحظوظ ويهب جوائزه وعطاياه لمن يشاء سبحانه وتعالى, ولاشك يا سيدتي في أنك قد أحسنت الاختيار لحياتك في تجربتي الزواج اللتين أتيحتا لك فقبلت بنواقص حياتك مع زوجك الراحل رحمه الله وتعوضك عن حرمانك من الإنجاب بحسن عشرة زوجك لك وحدبه عليك وأخلصت له العشرة ووقفت إلى جواره في محنة مرضه, ولم تتشكي من رعايته, فلا عجب إذن في أن يتطلع أكثر من رجل للاقتران بك بعد ترملك.
ولا عجب كذلك في أن تهبك السماء جائزتها الكبرى فتجمع بينك وبين زوجك الحالي فيحسن عشرتك.. ويعوضك عن أحزانك السابقة, ويجد كل منكما لدي الآخر عزاءه وسلواه ومكافأته من ربه علي جميل صبره, ذلك أن الأصالة والوفاء للشريك والتضحية من أجله بلا تبرم هي السمة المشتركة بين شخصية كل منكما.. كما أن كلا منكما قد استوفي نصيبه من الألم كاملا في حياته الماضية وحق له أن يتطلع إلي تعويض السماء له.
فهنيئا لكل منكما صاحبه وحياته الجديدة معه وفرصته الثانية العادلة في السعادة والأمان.
وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور صدق الله العظيم.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر