روح المغامرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

 روح المغامرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

روح المغامرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999


أنا سيدة في السابعة والثلاثين من عمري أعمل بالتربية والتعليم ومتزوجة منذ عشر سنوات ورزقني الله بطفلة في التاسعة وولد في السادسة من عمره‏,‏ ولقد تزوجت عن حب وتفاهم وزوجي رجل طيب القلب وكريم مع أسرتي ولا يقصر أبدا في توفير احتياجاتنا .

غير أن مشكلتي تتمثل في شخص واحد هو والده‏,‏ فهو رجل غريب يكره البشر ويطلق على كل إنسان يتعامل معه اسم نوع من أنواع الحيوانات‏,‏ كما أنه يصبغ شعره ويعتقد أنه مازال في ريعان شبابه‏,‏ وقد تزوج ست مرات حتى الآن ويحاول بكل جهده أن يدمر استقرار حياتي مع زوجي بالرغم من أنني لم أسيء إليه في شيء وأعامله دائما بود واحترام‏,‏ ولقد دخل المستشفى منذ فترة فتودد خلال وجوده فيه إلى ممرضة وحاول إقناعها بخطبتها إلى ابنه أي لزوجي بزعم أنه أعزب وليس متزوجا وعلمت بذلك فتوجهت إليها وقدمت إليها نفسي وأولادي وتعجبت من أنني جميلة وأنيقة ودائمة الابتسام ولا يوجد ما يدعو زوجي للزواج علي ولا ما يدعو والده لإغرائها بالارتباط بابنه .

 

وقطعت علاقتها به واعتذرت لي وشعرت بالراحة لانتهاء هذه الأزمة التي كادت تعصف ببيتي‏,‏ لكني لم أهنأ بالراحة كثيرا إذ لم يطل الوقت ثم بدأ صهري من جديد محاولة أخرى‏,‏ فقدم زوجي إلى شقيقة زوجته السادسة‏,‏ وكانت زوجته في ذلك الوقت تكثر من زيارتها لأنها في حالة خصام معه فراح يصطحب معه في زياراته لزوجته وشقيقتها ويبذل كل جهده للتقريب بينه وبين الشقيقة وأحسست بالخطر الداهم مرة أخرى وتساءلت في حيرتي وضيقي‏:‏ لماذا لا يريد صهري لي أن أهنأ بالراحة والاستقرار في حياتي الزوجية وفاض بي الكيل فواجهت زوجي بما علمت وأنكر أنه كان يعتزم الزواج من هذه السيدة وأقسم أنها لم تكن سوى نزوة عابرة هيأها له والده ولسوف ينهيها على الفور ويتفرغ لبيته وأولاده.

 

 والمشكلة هي أنني قد أصبحت أعيش الآن في جحيم دائم من الغيرة والشك والخوف على زوجي من أبيه وإغراءاته له‏,‏ ولقد حاولت مرارا أن أجعل منه شخصية مستقلة عن أبيه بلا جدوى وأسأله دائما ماذا ينقصني لكي ينظر إلى غيري من النساء وأنا جميلة وحريصة على زوجي وأولادي وربة بيت ممتازة فيعتذر لي ويعدني بالإخلاص لي في معظم الأحيان‏,‏ وفي أحيان أخرى يغيظني بقوله إنه لابد له أن يتزوج مرة أخرى بالرغم من أنه لا يشكو شيئا مني لأن من شابه أباه فما ظلم‏!‏
والآن فإن زوجي يا سيدي يريد أن يتركني ويسافر إلى أمريكا لكي يجرب حظه هناك‏ ..بالرغم من أنه ميسور الحال ويشغل وظيفة محترمة وله رصيد في البنك ولديه بيت يجري تأسيسه وليس هناك ما يدعوه للسفر والبعد عن أسرته‏,‏ وأنا أخاف ربي واخشى على نفسي في غيابه وأخشى أكثر من الفراغ الذي سيتركه سفره الطويل وطول غيابه عني وعن أبنائه‏,‏ فأرجو أن تناشده أن يبقى معنا ويشكر الله على ما هو فيه من نعم كثيرة لأننا راضون بما أعطانا الله كما إنني لا استطيع تحمل أعباء تربية الأبناء وحدي‏,‏ وأرجو أيضا أن تناشده أن يتقي الله في زوجته وبنيه وأبنائه وان يحسن معاملتي ويحرص علي كما احرص عليه‏,‏ كما أرجوك رجاء حارا أن تناشد والد زوجي أن يدعنا أنا وزوجي لشأننا لكي تستمر الحياة الزوجية بيننا ونربي أبناءنا بين أبوهما في بيت هادئ مستقر‏,‏ وأن يتقي الله في هذه المرحلة من عمره ويتقرب إليه بالعمل الصالح بدلا من أن يتدخل في خصوصياتنا بهذه الطريقة المؤلمة‏,‏ لكي اشعر بالأمان والاستقرار في حياتي وشكرا لك‏.‏


‏ ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

زوجك يا سيدتي يحاول تكرار مثال أبيه في عشق الحياة وروح المغامرة ومحاولة اعتصار ثمرة المتعة حتى آخر قطرة فيها‏,‏ ووالده يكرر بدوره مثال عاشق الحياة زوربا في رواية كازنتزاكس الشهيرة حيث كان يرى أن غاية الدنيا هي العشق والمتعة بكل أنواعها ومن كل سبلها بلا تحفظ‏!‏
وما أكثر أشباه مثل هذه الشخصية التلذذية التي تطلب كل ما يحقق لها المتعة بغض النظر عن المسموح والممنوع منها وبغير توقف أمام ما يدفعه الغير من ضرائب غالية لذلك‏,‏ وما أقل إدراكهم لمسئولياتهم الأخلاقية والإنسانية تجاه ذويهم وتجاه الحياة بوجه عام‏.‏


وأمثال هؤلاء إذا تزوجوا‏,‏ فإنهم يتعاملون مع الزواج غالبا كمتعة مشروعة أو عشق مقنن لمفاتن الأنثى‏,‏ وهو مفهوم ابيقوري آخر لا يصمد طويلا للزمن ولا يحقق غاية الزواج الاسمى الذي يراه الفضلاء على حد تعبير الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله إقامة بيت السكنية والآداب الاجتماعية في إطار من الإيمان بالله والعيش وفقا لهديه وتعاليمه‏.‏
أو ذلك المفهوم الرشيد الذي يترجمه عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا في دعائهم في محكم آيات الذكر الحكيم‏:‏
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما‏.‏
والزواج بهذا المفهوم الرشيد هو استقرار للعين على من تشارك صاحبها رحلة الحياة‏,‏ وعلى أبنائه منه‏,‏ والسعادة بهم وتكريس الحياة لهم‏.


أما العين المتنقلة الذواقة فهي عين خؤون تجر صاحبها دائما إلى الاضطراب والضياع والمشاكل ومن عجب أن يكون الأب الذي يفترض فيه أن يحمي أبناءه من تكرار أخطاءه وعثراته الشخصية في الحياة هو الذي يغري الابن بالسير في نفس الطريق الذي سلكه من قبل وخبر دروبه ودفع أبناؤه ثمنه غاليا من استقرارهم وأمانهم في الحياة.

 

 ومن عجب أن يستجيب الابن لنداء السير في هذا الطريق وقد خبر هو نفسه ضريبته الباهظة على حياته العائلية ونشأته المضطربة‏‏ وتمزقه السابق بين أبويه‏,‏ فكأنما لم يستفد احد بتجربته‏..‏ ولم يتعلم احد شيئا من أخطاء الرحلة‏.‏
غير أنني أتصور أن زوجك يا سيدتي بالرغم من كل الظواهر البادية لن يكرر مثال أبيه في الحياة لسبب جوهري هو أنه قد تجرع هو شخصيا مرارة الإحساس بافتقاد الاستقرار العائلي ـ وانشغال الأب بزيجاته المتكررة‏,‏ وغياب دور الأب الصالح في حياته‏,‏ ومن الآباء من يحرصون على أن يجنبوا أبناءهم أشواك الطريق التي كابدوها هم شخصيا من قبل‏,‏ واحسب أنه واحد من هؤلاء الآباء بالرغم من تردده بين الضعف والاستجابة لإغراء الأب وبين عاطفته تجاه زوجته وأبنائه ورغبته في حمايتهم من الضياع‏.


فهو يتراوح بين الاستجابة لرغبة الأب في أن يكرر صورته في الحياة‏,‏ ومحاولة تقمص روح المغامرة التي حكمت حياة أبيه‏,‏ وبين العطف على أبنائه وزوجته والخوف عليهم من أن يدفعوا ما دفعه هو ووالدته من ضريبة ظالمة لمغامرات أبيه وزيجاته المتكررة‏.‏
ولهذا فهو لا يمضي في الشوط حتى آخره‏,‏ وإنما يستعيد رشده بعد حين ويعتزم الإخلاص لزوجته وأبنائه‏,‏ إلى أن يهيئ له الأب مغامرة جديدة فينساق وراءه لبعض الوقت‏.‏
ونصيحتي له لكي يعفي نفسه من هذا التمزق بين الرغبة في أن يتقمص شخصية أبيه وتكرار مثاله في الحياة‏,‏ وبين الرغبة في العيش في أمان مع وزوجته وأبنائه‏,‏ هي أن يثق تماما في انه إنسان مختلف عن أبيه له شخصيته المستقلة وسماته الخاصة التي تميزه عنه‏,‏ كما انصحه أيضا بأن يتمثل مشاعره تجاه أبيه وهو طفل صغير أو صبي برئ حين كانت تشتد عليه معاناته من التمزق العائلي وإحساسه بالنبذ والإهمال من جانب الأب المشغول بنفسه ومتعته وان يتنبه جيدا إلى أن نفس هذه المشاعر السلبية المتضاربة سوف ينطوي له عليها أطفاله حين يحاول تكرار مثال أبيه في الحياة‏,‏ فهل يحب لنفسه أن يحمل له أبناؤه ذات يوم ما كان يحس به هو نفسه من مشاعر سلبية تجاه أبيه‏.!‏
إن رغبته في السفر لأمريكا بغير حاجة ضرورية إلى ذلك ليست سوى صدى لتأثره بشخصية أبيه المغامرة ومثل هذه الرغبة يكفي للتنازل عنها أن تعلنه زوجته بخشيتها علي نفسها في غيابه‏,‏ وعجزها عن تحمل مسئولية الأبناء وحدها دونه‏..‏ أفليس هو إذن من الرجال ذوي النخوة الذين لا يحتاجون إلي التصريح اعتمادا على ما يكتفي به ذو الألباب من تلميح‏!‏
إنني أثق في أنه واحد من هؤلاء الرجال‏..‏ لكن فساد المثال والقدوة التي يمثلها الأب في حياته‏,‏ قد طمس بعض جوانب شخصيته الطيبة وأتصور أنه لن يلبث أن يستعيد نفسه ويدرك مسئولياته تجاه زوجته وأبنائه‏,‏ كما أنني أثق كذلك في أن روح المغامرة التي يحاول الآن بتأثير أبيه أن يستجيب لها ليست سمة أصيلة في شخصيته وإنما هي عرض عابر نتيجة لمؤثرات هذا الأب ولن يستمر طويلا‏.‏
أما والده فبالرغم من نفوري مما يمثله من قيم ومبادئ في الحياة‏,‏ فإني أقول له إنه إذا كان قد فاته أن يحسن لأبنائه وهم صغار وأن يوفر لهم الاستقرار العائلي والأمان‏,‏ ألا يحسن به وقد بلغ من العمر قمة النضج أن يحاول الإحسان إليهم وهم كبار فيحميهم من مؤثرات شغفية التلذذية ويكف عنهم أذاه‏..‏ وإغراءاته رحمة بأحفاده‏..‏ إن لم يكن رحمة بهؤلاء الأبناء أنفسهم‏

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات