الضربة القوية .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

 الضربة القوية .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

الضربة القوية .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2001

إن كثيرا من مآسي العلاقات الإنسانية ينبع من أن استحياء البعض منا من ذوي الهيبة من قومهم اكبر من استحيائهم من الله سبحانه وتعالى‏، ولهذا فلقد يردهم استحياؤهم من ذوي السلطان عن إتيان ما يغضبهم منهم خوف العقاب والانتقام ولا يمنعهم استحياؤهم من خالقهم عز وجل من ارتكاب المعاصي‏,‏ وظلم الغير وإيذائهم والافتراء عليهم بالباطل واغتصاب حقوقهم‏.

عبد الوهاب مطاوع


أنا سيدة نشأت في أسرة كانت الكلمة العليا فيها للأم وليس للأب‏..‏ ووعيت للحياة فلمست خضوع أبي لأمي وكرهه المكتوم لها‏..‏ ومع مرور الأيام رسخت أمي في عقلي أن الرجل ما هو إلا مصدر للمال‏,‏ وأن مهمته الأساسية هي تلبية الطلبات التي تحتاج إليها المرأة فقط‏,‏ وبالفعل فلقد كنت أرى قيادة الأسرة كلها في يد أمي‏.‏ ودخل أبي تتصرف فيه أمي دونه‏..‏ كما كنت أرى أمي تذهب إلى عملها في حين يقوم أبي بكي الملابس وغسل الصحون‏,‏ وإذا لم يفعل ذلك يناله من لسان أمي الكثير والكثير‏.


ومضت بي السنوات وأصبحت شابة جميلة وتزوجت إنسانا فاضلا وأنجبت منه ثلاث بنات وحاولت بالطبع تطبيق نظرية أمي عن الرجال في التعامل معه‏..‏ فحاولت التحكم فيه منذ البداية‏,‏ وكان هو يستجيب لي في بعض الأحيان‏,‏ ويقاوم في أحيان أخرى‏,‏ فإذا حدثت بيني وبينه أية مشكلة عادية مما يحدث بين كل زوج وزوجته أقامت أمي الدنيا ولم تقعدها وأصرت على أن أهجر البيت مع بناتي وأقيم لديها إلى أن يحضر زوجي ويركع ويعتذر ويقبل الرؤوس ويبدي الندم  ويصحح خطأه ويعوضني عنه‏.‏

ويتدخل الأهل لتقريب وجهات النظر‏,‏ فلا تلين أمي أبدا ولا تتراجع ولا تقدم أي تنازل أو حل وسط‏..‏ وإنما لابد من الخضوع التام والاستسلام من جانب زوجي دون شرط أو قيد‏.‏


وبعد أن يطول الفراق وتضطرب حياة زوجي‏..‏ ويشتاق للبنات خاصة أننا كنا نمنعه من رؤيتهن‏,‏ يجيء كاظما غيظه وحنقه ومرارته‏,‏ ويصالحني ويرجع بي إلى بيت الزوجية‏,‏ وتمضي الحياة بنا إلى أن نصطدم بمشكلة أخرى فتتكرر نفس القصة بحذافيرها‏..‏ إلى أن جاءت مرة وهجرت البيت كالمعتاد مع بناتي الثلاث‏,‏ وقبل أن يأتي زوجي ساعيا للصلح إذا بأمي تبدأ مع خالي الذي يعمل محاميا في شن حرب الدعاوي القضائية الكيدية ضده‏,‏ وخالي يتزعم المعركة ويلقي المزيد من الوقود إلى النار المشتعلة‏..‏ ويقيم في كل يوم دعوى جديدة ضد زوجي‏..‏ ويقسم أن يشرده ويسجنه ويحصل لي منه على كل ما أريد‏,‏ وزوجي لا يتكلم ولا يسيء إلي ويكتفي بالدفاع عن نفسه بقدر جهده‏,‏ وكلما خسرت قضية وكسبها هو سعى للصلح بيننا واستعادة حياتنا السابقة من جديد لتنشأ بناتنا بيننا‏,‏ وكانت نفسي تهفو إلى ذلك بالفعل‏,‏ لكن ماذا افعل مع أم طاغية وخال لا يعرف الرحمة وأب لا حول له ولا قوة‏..‏ فقد كان معنى عودتي له إذا حدثت لدي أمي وخالي هو انهزامهما في المعركة وأمي لا تقبل الهزيمة وخالي كذلك‏..‏ وأنا منساقة لهما وخلال عشر سنوات من التقاضي‏,‏ والدخول للمحاكم والخروج منها بانتصارات وهمية أحيانا أو بخفي حنين في معظم الأحيان استقر الخصام بيني وبين زوجي وتراكم وصار كالهرم الأكبر‏.‏


وخلال هذه السنوات ماتت أمي ثم أبي وبقيت أنا مع بناتي  وحدي في بيت الأسرة‏,‏ وأقنع خالي بناتي الثلاث بأن أباهم‏,‏ رجل متوحش وجبار ويريد قتلهن‏,‏ لكن الأعوام مضت وكبرت البنات وتفتح وعيهن للحياة وبدأن يسألن عن أبيهن ويرين زميلاتهن بالمدرسة يعشن حياة طبيعية بين آباء وأمهات‏,‏ فيسألنني‏:‏ لماذا لا يعشن هن أيضا بين أب وأم‏.‏ ولماذا لا يرين آباهن أبدا‏..‏ ولا يراهن‏,‏ خاصة وقد قيل لهن إنني امنعهن من الذهاب إليه وبدأت مشاعر الابنة الكبرى بالذات تتغير تجاهي تدريجيا خاصة مع التوفيق الذي حققه أبوها في حياته العملية فلقد لمع نجمه في مجاله بعد حين وكرمته الدولة وظهرت صورته في الصحف وفي التليفزيون‏,‏ فكأنما راحت تسأل نفسها لماذا حرمتها من هذا الأب الناجح والحق هو انه قد حاول طويلا أن يرى بناته وان تنشأ بينه وبينهن علاقة طبيعية لكن طغيان أمي وغطرسة خالي حالا دون ذلك إلى أن جاء وقت شعرت فيه ـ خطأ أو صوابا ـ بأن ابنتي الكبرى تكرهني في أعماقها وارتبط ذلك بحادث أحزنها كثيرا إذ تقدم لها عريس مناسب وأعجبها‏..‏ وزارنا وأجرى تحرياته‏,‏ وحين علم بكل شيء عنا ذهب ولم يرجع‏..‏ وقد أحزنني أنا ذلك أيضا‏,‏ لكن ما هزني بعنف كان أمرا آخر‏..‏ فلقد حدث خلاف عائلي بين ابنة خالي هذا‏..‏ وبين زوجها وهجرت بيت الزوجية وتوقعت أن يقيم خالي على الفور عدة دعاوي قضائية ضده لينكل به كما فعل بزوجي‏..‏ ففوجئت به لا يفعل ذلك ويسعى للتفاهم وديا مع زوج ابنته ويبرر ذلك بقوله إنه لا يريد أن يبهدل ابنته في المحاكم‏!‏


وهنا شعرت بأن خالي قد سدد إلي ضربة قوية زلزلت كياني‏..‏ وأفقت من غيبوبتي الطويلة وأدركت كم كان زوجي  مظلوما مع أم متجبرة كأمي وخال متمرس كخالي وزوجة غبية مثلي‏..‏ إذ انه إذا كانت المحاكم بهدلة لبنات الأسر الطيبة فلماذا ارتضاها لي خالي وشجعتني عليها أمي بشدة حتى اليوم الأخير من حياتها ولماذا لم يسع أحد إلى التفاهم الودي مع زوجي‏,‏ كما يسعى الآن خالي للتفاهم مع زوج ابنته‏..‏ ألم يكن من حق بناتي أن ينشأن بين أبيهن وأمهن كأطفال ابنة خالي؟
إنني الآن يا سيدي مستعدة لان اذهب إلى زوجي واركع تحت قدميه طالبة منه العفو والسماح وان أقول له إنني لا أريد أن أعيش معه كزوجه بل كأقل من الخادمة له ليس من اجلي وإنما من اجل بناتي اللاتي يدعون ربهن كل يوم أن يجمع شملهن بأبيهن‏..‏ وأناشد كل سيدة تخاصم زوجها ألا تستجيب لتحريض احد ضده وان تحاول حل مشكلتها معه بالتفاهم الودي وليس بالحرب القضائية والدعاوي الكيدية‏..‏ وألا تتصور كما تصورت أنا بالفعل بتأثير أمي أن نجاح الزوجة هو في إخضاع زوجها لإرادتها أو ركوبه على حد التعبير الدارج‏..‏ لأن السعادة شيء آخر غير ذلك تماما‏..‏ ولأن سعادة الأبناء ومستقبلهم أهم من كل شيء‏..‏ وسامح الله أمي فيما فعلت بي‏..‏ وسامح الله خالي فيما أعانها عليه‏..‏ وفيما وجهه إلي من ضربة قوية في الفترة الأخير‏..‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:‏

..‏ وغفر لك أنت أيضا يا سيدتي ما فعلت بنفسك وبناتك وزوجك‏,‏ فالحق أن مسئوليتك عما جرى كبيره بالرغم مما جنته عليك والدتك وخالك والبيئة العائلية غير المثالية التي نشأت فيها‏,‏ ذلك أنك لو كنت قد تعاملت من الأصل مع  زوجك بروح العدل والحرص على صالح بناتك لما استطاع أي طرف مهما بلغ من تأثيره عليك إغراءك بهدم عشك وشن هذه الحرب الظالمة على زوجك وفصم علاقته بك وببناته على هذا النحو المؤلم‏.‏
ولاشك في أن الدرس الأول لهذا الجانب من قصتك هو التذكير بأهمية القدوة العائلية الرشيدة في حياة الإنسان وأهمية سيادة القيم الأسرية الصحيحة والعادلة وضرورة الاهتداء بروح الإنصاف والحق والالتزام بالقيم الدينية والخلقية في التعامل مع الغير‏.‏


فإذا كانت حياتك قد خلت ممن كان ينبغي له أن يرشدك إلى جادة العدل والحق في التعامل مع شريك الحياة والآخرين بصفه عامة‏..‏ فإن الفطرة السليمة لدى من يلتزمون بقيم دينهم وأوامره ونواهيه كثيرا ما تهديهم سواء السبيل بغير علم الدارسين ولا نصح الناصحين‏,‏ وكثيرا ما يكون مرشدهم إلى ما ينبغي لهم أن يتجنبوه‏..‏ أو يربأوا بأنفسهم عنه هو الحياء من فعل مالا يليق بهم فعله ولو لم يكن تحريمه من الناحية الدينية واضحا في أذهانهم‏.‏
لهذا جاء في الحديث الشريف إن قلة الحياء كفر بمعنى قلة الحياء من الله سبحانه وتعالى ‏..‏ وجاء فيه أيضا‏:‏ استح من الله استحياءك من ذوي الهيبة من قومك‏.‏
والحق هو أن كثيرا من مآسي العلاقات الإنسانية ينبع من أن استحياء البعض منا من ذوي الهيبة من قومهم اكبر من استحيائهم من الله سبحانه وتعالى‏,‏ ولهذا فلقد يردهم استحياؤهم من ذوي السلطان عن إتيان ما يغضبهم منهم خوف العقاب والانتقام ولا يمنعهم استحياؤهم من خالقهم عز وجل من ارتكاب المعاصي‏,‏ وظلم الغير وإيذائهم والافتراء عليهم بالباطل واغتصاب حقوقهم‏.

 

ولعلك لو كنت قد اعتصمت يا سيدتي بقيمة الاستحياء من الله سبحانه وتعالى وحدها لما فقدت حياتك الزوجية بلا أسباب قاهرة كما حدث معك‏.‏ لما انجرفت إلى هذه الحرب الكيدية ضد زوجك ووالد بناتك ولما انصعت لوالدتك وخالك في حربهما غير الشريفة ضده‏.‏ بل لما كنت قد تطلعت أصلا لتكرار المثال الفاسد في علاقة الزوجة بزوجها الذي عايشته عن قرب في بيت أبيك مع زوجك‏.‏
والمؤسف أيضا في هذا الأمر هو أن غيبوبتك قد طالت كثيرا حتى تقدمت بناتك في العمر وبلغت كبراهن سن الزواج وافتقدن الأب حين تحتاج إليه بناته‏,‏ وبالرغم من ذلك فإن الإفاقة لم تتحقق عند صدمة فشل ارتباط الابنة الكبرى بسبب ظروفها العائلية غير المواتية‏,‏ وإنما بسبب تساؤلك الممرور لماذا تعفف خالك عن منازعة زوج ابنته قضائيا ولم يشهر ضده سيف الدعاوي الكيدية كما فعل مع زوجك وراح بدلا من ذلك يسعى إلى التفاهم الودي معه والصلح بينه وبين ابنته؟
ولاشك أن من حقك بالفعل أن يثير هذا التطور تساؤلاتك‏,‏ ويدفعك لمراجعة ما كان من أمرك لأن الجواب القاسي على هذا السؤال هو أن خالك لم يبادر على الفور بتحطيم الجسور‏..‏ وإشهار سلاح الدعاوي الكيدية لسبب مؤلم لك بلا شك هو أنه لم يرغب لان يعرض ابنته وفلذة كبده للمصير الذي انتهي إليه أمرك أنت وبناتك‏!‏ ولأسباب كثيرة قد يكون منها ابنته نفسها وحرصها على مستقبل أطفالها وعدم رغبتها في قطع الخيوط بينها وبين زوجها‏,‏ وقد يكون منها درس التجربة العملية الذي تعلمه الخال نفسه من حربه الكيدية ضد  زوجك‏,‏ وكيف كان الخاسر الأكبر فيها هن بناتك اللاتي حرمن من أبيهن ومن الحياة الطبيعية بين أبويهن بلا أي مبرر وقد يكون منها كذلك حكمة السنين التي اكتسبها خلال رحلة العمر ودور الناصح الأمين الذي تقوم به زوجته في حياة ابنتها بديلا للدور المخرب الذي قامت به والدتك في حياتك ودرس التجربة الأكبر لهذه الضربة القوية يذكرنا بما روي عن الإمام المحدث بن سيرين حين قال له رجل‏:‏ بلغني أنك قد نلت مني أي تحدثت عني بسوء فأجابه على الفور‏:‏ نفسي أعز علي من ذلك‏.‏ أي أعز عليه وأكرم عنده من أن يرتكب مثل هذا الإثم فيضعها بذلك موضع اللوم من أحد‏.‏


والواضح هو أنك حين شاركت بالصمت فيما تدبره والدتك ضد زوجك وينفذه خالك لم تكن نفسك أعز عليك مما اخترته لها من موضع‏.‏ ولم تكن كذلك على والدتك ولا على خالك بالرغم من تضامنهما الشكلي معك‏,‏ لأن من أحب أحدا بصدق لم يعنه على ظلمه لغيره‏,‏ وإنما أعانه على نفسه وعلي النأي بها عن الدنايا‏.‏
فإذا كنت قد أفقت الآن من غيبوبتك فإني لأرجو أن يكون ذلك قد جاء بالفعل من باب الرجوع إلى الحق ولو كان متأخرا‏,‏ وليس من باب الاضطرار أو الاحتياج إلى دور الأب في حياه بناته مع اقترابهن من سن الزواج‏..‏ واحتياجهن الإنساني والمادي إليه في هذه المرحلة الحرجة من أعمارهن‏.‏ ذلك أن هذا المبرر وإن كان مشروعا في حد ذاته‏..‏ إلا انه وحده إن لم يصاحبه تصحيح مؤكد للمفاهيم الخاطئة وندم حقيقي على ما حدث وتغير إيجابي في الرؤية والقيم فانه لا يكون دليلا على العودة إلى جادة الحق بقدر ما قد يكون فصلا جديدا من فصول الأنانية والنظرة المادية  البحتة للحياة‏.‏
وعلى أية حال فإن إبراء الذمة مما يثقل الضمير يتطلب من المرء أن يعترف بخطئه في حق من ظلمه وأذاه وافترى عليه وان يطلب منه صفحه عما كان من أمره‏..‏ ويرد عليه حقه‏..‏
فلتفعلي إذن يا سيدتي إذا كان الندم حقيقيا وصادقا عسى أن يمهد ذلك لشفاء النفس من مرارتها‏.‏ ويفتح الباب لوصل ما انقطع‏.‏

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات