جائزة الأمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

 جائزة الأمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

جائزة الأمان .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003


رأيت أن أعرض عليك أمري وأنا في منعطف رئيسي من حياتي لأستعين برأيك على اختيار الطريق‏,‏ فأنا رجل متوسط العمر نشأت في أسرة صالحة متوسطة المستوى‏,‏ كنت أصغر أبنائها وتفوقت في دراستي بإحدى الكليات العملية‏..‏ ووقعت خلال دراستي بالكلية في غرام جارة لي كانت طالبة بالثانوية العامة وقتها وأحببتها حبا صادقا وعفيفا‏,‏ ولم ألتق بها مباشرة أبدا بسبب القيود العائلية المفروضة عليها‏..‏ وإنما نجحت فقط في مكالمتها تليفونيا مرات قلائل‏,‏ ونما الحب بيننا بالنظرات أكثر من أي شيء آخر‏..‏ وقبل أن أتخرج في كليتي وأستطيع مفاتحة أبي في التقدم لخطبتها علمت بالمصادفة أن أباها قد وافق على خطبتها لقريب لها‏..‏ فسلمت أمري لله‏..‏ وتنازلت عن هذا الحلم وواصلت حياتي فتخرجت وعملت بإحدى شركات القطاع العام في بداية السبعينيات وتزوجت من فتاة جميلة من أسرة طيبة وغاية في الرقة والأدب‏,‏ فكانت لي مثال الزوجة المخلصة الصالحة‏..‏ وأنجبنا ولدين وسعدنا بحياتنا ومعيشتنا‏,‏ إلا أنني بدأت أشعر بأن مطالب الحياة أكبر من إمكاناتي ولابد لي من دخل آخر يوفر لي ولزوجتي ما هو أكثر من الضروريات‏,‏ فأخذت المخاطرة واستقلت من وظيفتي واتجهت إلى العمل في القطاع الخاص‏..‏ وشاركت في بعض المشروعات الصغيرة‏..‏ وكرست وقتي وجهدي لها‏,‏ فأصبحت أخرج من البيت في الصباح الباكر ولا أرجع إليه إلا في وقت متأخر من الليل‏,‏ وسرعان ما وفقني الله إلى إنشاء شركة خاصة لي نجحت وازدهرت‏,‏ وحققت من ورائها الخير الكثير وتحسنت أحوالي المالية كثيرا وأصبح لدي أموال كافية والحمد لله‏.‏

وخلال ذلك كله عشت مع زوجتي حياة هانئة راضية نستمتع بخيرات الله التي أفاض بها علينا ونحمده كثيرا‏..‏ غير أن زوجتي قد مرضت بعدة أمراض ودخلت دوامة العلاج والأطباء والعمليات الجراحية لفترة ليست قصيرة ثم تحسنت صحتها والحمد لله‏..‏ وإن كانت قد عانت من تبعات المرض والعلاج‏,‏ وكبر الابنان وتخرجا في كليتهما‏,‏ وعملا في وظائف ملائمة وتزوج ابني الأكبر وأثثت له شقته وأعطيته ما يوفر له دخلا كريما مستمرا‏,‏ وخطب ابني الأصغر فتاة مناسبة وأعطيته هو الآخر مثلما أعطيت لأخيه‏,‏ ونتيجة لظروف السوق الحالية فقد تضاءل حجم أعمال شركتي وانكمشت نشاطاتي التجارية‏..‏ فخفضت وتيرة العمل‏‏ ولجأت إلى العمل الهاديء بعد سنوات الكفاح والشقاء الطويلة‏..‏ وقنعت بما لدي وهو يكفيني ويكفي زوجتي وأبنائي من بعدي والحمد لله‏,‏ وأصبحت أجد وقتا أكبر لبيتي وأصدقائي ومعارفي وللنادي‏..‏ وللتمتع بمباهج الحياة‏,‏ وهي أمور رأيتها كلها مفيدة لمن كان في مثل عمري أي في منتصف الخمسينيات‏..‏ لكنه مع اتساع الوقت لزوجتي وبيتي عن ذي قبل ظهرت لي عيوب واختلافات بيني وبين زوجتي في فهمنا للحياة‏,‏ وحدث تضارب في وجهات النظر تحول في بعض الأحيان إلى شجار كنت أسارع إلى إنهائه من جانبي مراعاة لظروف مرضها مع تبرمي في داخلي مما يحدث‏.

 

‏ وكان من هذه الأمور عزوفها إلا قليلا عن العلاقة الحميمة معي خلال السنوات الأخيرة‏,‏ وأنا رجل ملتزم دينيا‏,‏ ومنذ شهور وفي ظروف قدرية غريبة التقيت بفتاتي الأولى التي خفق قلبي لها لأول مرة في سن الشباب بعد‏30‏ عاما من انتهاء القصة‏,‏ وعرفت أن زوجها قد رحل عن الحياة في حادث أليم وأنها لم تتزوج من بعده ولم تنجب منه ولم تكن رحلتها معه سعيدة‏,‏ فآثرت أن تستكمل مشوار الحياة مستقلة بنفسها وكرست وقتها لعملها في مصر وفي بلد عربي‏,‏ واكتفت بما قسمه الله لها من حياة‏,‏ ووجدنا نفسينا نندفع إلى مشاعر حب جارف وطاهر ومبرأ من كل غرض مادي أو رغبة حسية‏,‏ فحديثنا لا ينتهي ومقابلاتنا كثيرة وناعمة وتغمرها المودة والإئتناس والتعاطف‏,‏ وهي تتقبلني كما أنا أبا وزوجا لأخرى ولا تكف عن السؤال عن زوجتي وأبنائي للاطمئنان عليهم‏,‏ وخلال وقت قصير وجدت نفسي بين أحاسيس متباينة‏:‏ حياة روتينية متحفظة في أسرتي‏..‏ التي أرعاها وأؤدي جميع التزاماتي نحوها‏..‏ ورومانسية منطلقة أعيشها بسعادة بالغة لسويعات أقضيها مع فتاة القلب في أماكن عامة محترمة حافلة بأحاديث الذكريات وطرائف السنين‏.‏



ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

مع أن هموم الحياة كثيرة إلا أنه لا بأس كذلك بتناول هذه المشكلة لأن لها أصداء مماثلة في حياة البعض‏..‏ ولقد تهدد بالفعل استقرار بعض الأسر‏..‏ وتعرض بعض الأزواج المشهود لهم بالاستقامة الشخصية لاضطرابات عائلية ما كان أغناهم عنها‏,‏ وبداية فإني أقول لك إن السبب الأهم لظهور هذه المشكلة في هذه المرحلة من حياتك هو أن الوقت قد اتسع أمامك لكي تتلفت حولك بعد هدوء وتيرة العمل وانكماش نشاطاتك‏,‏ وتفكر فيما تعتبره عيوبا جديدة في زوجتك واختلافات في رؤية كل منكما للحياة وتناقضات في وجهات النظر‏,‏ مما لم يكن له من قبل أدنى أثر على حياتكما معا وأنتما في مرحلة الكفاح والنشاط والانغماس في العمل‏,‏ ولا عجب في ذلك فعلماء الطبيعة يقولون لنا إن الطبيعة ضد الفراغ‏..‏ وانك إذا ثقبت زجاج المصباح الكهربائي المفرغ من الهواء تسلل إليه على الفور الهواء الخارجي وملأه عن آخره‏..‏ وكذلك العقل البشري إذا خلا من الشواغل الأخرى تسللت إليه على الفور الهموم والأحزان والأفكار السلبية والسخط والتذمر‏.‏


ولقد التقيت بفتاة القلب الأولى وأنت في حالة من الضعف النفسي‏,‏ بسبب الفراغ وانكماش الأعمال‏,‏ فتحركت مشاعرك القديمة تجاهها‏,‏ أو هكذا خيل إليك‏,‏ وألقى ظهورها بعد‏30‏ عاما حجرا في مياه حياتك الهادئة‏..‏ وتاقت نفسك لأن تعيش قصة غرامية متأخرة تحرك الملل الراكد وتبعث نوعا من الحرارة والدفء في حياتك‏.‏

وأغلب الظن أنك لا تعيش قصة حب حقيقية مع هذه السيدة بدليل حبك لزوجتك الذي يعلم الله وحده ما هو مداه وعمقه كما تقول‏,‏ وإنما أنت تعيش غالبا قصة حنين إلى الصبا والشباب المبكر والمشاعر الغضة البريئة‏..‏ والقصة التي لم تكد تبدأ حتى انطوت صفحتها‏..‏ ذلك أن الحب الحقيقي الذي يظل كامنا تحت السطح ثلاثين عاما وفجأة يكسر القشرة الأرضية من فوقه ويبرز كالبركان الهادر لا تصنعه ـ كما هو الحال في قصتك ـ بضع نظرات متبادلة ولا بضعة اتصالات هاتفية قبل ثلاثة عقود ودون أن يكون له أي أثر في حياة طرفيه قبل أن يلتقيا من جديد‏..‏ لهذا كله فإني أرجح الظن بأنك لا تعيش الحب الحقيقي كما تتخيله‏,‏ وإنما تعيش مرحلة الحاجة إلى الحب‏..‏ وتجديد الحياة‏..‏ والرغبة في معايشة المشاعر العاطفية التي لم تسمح لك رحلة العمر بمعايشتها في حينها‏..‏ وأكبر دليل علي ذلك هو أنك لست الشاب نفسه الذي كان حين أحببت جارتك طالبة الثانوية العامة‏,‏ وهي أيضا ليست طالبة الثانوية العامة التي تبادلت معك النظرات والإشارات‏,‏ وكل منكما الآن إنسان مختلف تماما في أفكاره ومشاعره وسماته الشخصية‏,‏ ولا غرابة في ذلك فشاعر الهند العظيم طاغور يقول لنا إنه إذا انكسر حجر إلى نصفين فإن من السهل أن تعيد التحامه باستخدام مادة لاصقة‏,‏ أما إذا انفصل شخصان لفترة طويلة من السنين فإنه يتعذر عليك أن تعيد التحامهما من جديد لأن كلا منهما قد أختلف كثيرا عما كان عليه قبل الانفصال‏,‏ وأصبح الآن إنسانا مختلفا غير قابل للالتحام بسهولة بنصفه القديم‏.

 

وأيا كان الأمر فإن سؤالك عما إذا كان ما تفعله الآن يعد خيانة للزوجة الوفية المخلصة وسنوات العشرة الطويلة معها‏,‏ جوابه معلوم وهو نعم لأن الوفاء ينبغي له ألا يقابل إلا بوفاء مماثل‏..‏ ولو لم يكن الأمر كذلك لما حاك هذا التساؤل في صدرك ولما شغلت به مصداقا لمضمون الحديث الشريف الذي يقول لنا الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ولاشك في أنه لا يسعدك أبدا أن تطلع زوجتك وأبناؤك على ما تفعل الآن‏!‏ وحتى ولو لم يكن في علاقتك بهذه السيدة الآن ما لا تستطيع الدفاع عنه‏..‏ فإن استمرار العلاقة وتعمقها لابد أن يؤدي بكما ذات يوم إلى ما لا تستطيع تبريره أو الدفاع عنه‏..‏ ولا يخفف من الأمر شيئا ما تقوله من أنك منذ تجددت صلتك بهذه السيدة قد أصبحت أكثر سلاما وتسامحا مع زوجتك‏,‏ وأكثر رقة ولطفا‏,‏ فهذا التحسن في علاقتك بزوجتك لا يرجع كما يحلو لبعض من يبررون لأنفسهم مثل هذا النشاط الخارجي إلى أنك قد أصبحت أكثر سعادة فانعكس ذلك بالخير على علاقتك بزوجتك‏,‏ وإنما يرجع أساسا إلى إحساسك بالذنب تجاهها ومحاولتك نفسيا ولا إراديا تعويضها عن خيانتك لها‏,‏ فإن تسامحت معها في شيء فكأنما تقول لنفسك إنه يكفيها ما يترصدها من تعاسة وحزن حين تعلم بحقيقة الأمر‏,‏ وليس للسعادة الخارجية هنا أي دور في ذلك‏.‏

فإذا كنت تسأل بعد ذلك أليس من حقك أن تعيش أواخر أيامك في حب بعد سنوات الشقاء والكفاح؟ فإن الإجابة المنطقية دائما هي ولماذا لا يكون هذا الحب إلا خارج إطار الزواج؟ ولماذا لا يكون مع شريكة العمر التي شاركتك رحلة الكفاح والشقاء‏,‏ ومن حقها هي أيضا أن تجني ثمار هذا الكفاح مع زوجها في حياة هادئة ومشاعر عميقة متبادلة بين الزوجين بعيدا عن المغامرات الخارجية والقلاقل‏..‏ وهل يحق لها بهذا المنطق نفسه أن تبحث هي كذلك عن الحب والدفء خارج إطار الزواج‏,‏ وقد كافحت مثلك في الحياة‏..‏ وآن لها أن تهدأ وتستريح وتستمتع بأطايب الحياة؟

 

أما سؤالك عما إذا كان من الأنانية أن تعيش بعض أيامك راضي الضمير بعد أن أمنت حياة أسرتك وأبنائك‏,‏ فجوابه هو أن مغريات الحياة حولنا كثيرة دائما يا صديقي وليس هناك امرأة ولا رجل أيا كان وضعه يعجز إذا أراد عن ممارسة المغامرة العاطفية في أي مرحلة من العمر‏,‏ لكننا لا ننال جوائزنا بكثرة عدد مغامراتنا ولا بإتباعنا لأهوائنا واستسلامنا لضعفنا البشري ورغباتنا دون مقاومة‏,‏ وإنما ننالها بكبح جماح أهوائنا ورغائبنا والتحكم في ضعفنا البشري والتعفف عن الانتصارات الرخيصة في ميادين الحب والمغامرة العاطفية والعبث‏,‏ وبالقبول ببعض نواقص حياتنا تقديرا لعطاء الآخرين لنا وإعلاء لقيم عائلية وإنسانية أسمى كثيرا من السعادة الوقتية والمتعة الزائلة‏.‏

والتعفف شرط الولاية كما يقول لنا أهل الصلاح‏ .. ‏و كما في قصة الصياد الفقير والقطب الزاهد بشر بن الحارث الذي عرف باسم بشر الحافي لأنه كان يمضي إلى طلب العلم في شبابه حافيا إجلالا له‏,‏ فلقد شكا له ذات يوم صياد فقير من سوء حاله وعدم توفيقه في الحصول على قوت أبنائه‏,‏ فطلب منه بشر أن يحمل شبكته ويذهب معه إلى النهر‏,‏ وهناك أمره الزاهد الكبير أن يتوضأ ويصلي ركعتين ففعل فأمره أن يذكر اسم الله ثم يرمي بشبكته في النهر‏..‏ وغادره عائدا إلى بيته فلم يمض وقت طويل حتى خرجت الشبكة بسمكة كبيرة لم ير لها الصياد مثيلا من قبل‏,‏ فحملها إلى السوق وباعها بثمن طيب واشترى لعياله طعاما كثيرا ورجع إليهم فأكلوا حتى شبعوا‏,‏ ثم تذكر الشيخ الطيب فنهض حاملا بعض الطعام والحلوى وتوجه إلى بيت بشر وروى له ما كان من أمره ثم قدم له الطعام راجيا منه قبوله شكرا وامتنانا‏,‏ فابتسم بشر وقال له‏:‏ يا فلان‏..‏ لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة‏..‏ فاذهب وكله أنت وعيالك‏!‏
بمعني أنه لو كان ممن يقبلون مكافأة أو أجرا على عمل الخير لما استجاب الله سبحانه وتعالى لدعائه لهذا الصياد بالرزق الوفير‏.‏

وهذا هو حالنا نحن البشر أيضا يا صديقي‏.‏ لو لم نتعفف عن بعض المتع العابرة والزائلة‏..‏ حتى ولو خيل إلينا أننا في أشد الحاجة إليها في بعض الأحيان لما نلنا سمكة احترام الأبناء وشركاء الحياة والأهل المقربين لنا ولا حبهم لنا واعتزازهم بنا‏,‏ ولما نلنا كذلك جوائز الاستقرار العائلي والهدوء والأمان في سن الجلال والاحترام‏,‏ بل ولما حق لنا أن نتطلع إلى رحمة الله ونهتف داعين من أعماق قلوبنا‏:‏
‏"‏ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما  " صدق الله العظيم

فارجع إلى زوجتك يا سيدي وناقش معها بلا حرج كل ما تنكره عليها‏..‏ وأشعرها بجدية الأمر لكي تستجيب لكل ما تطلب منها‏..‏ وتلبي كل احتياجاتك العاطفية والإنسانية وتحميك وتحمي نفسها من مثل هذه الاضطرابات العائلية التي لا تحتملها طبيعة المرحلة‏..‏ وأطو تلك الصفحة القديمة مكتفيا بما بعثته في نفسك من ذكريات وأحاسيس الزمن الماضي‏..‏ واعرف متى تتوقف قبل فوات الأوان‏..‏ وقبل أن تبدأ الخسائر الحقيقية والسلام‏!‏

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات