ندوب الماضي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003
أنا فتاة ابلغ من العمر
27 عاما , نشأت فلم أجد حولي سوى أبي .. ولم أجد لي أما أو أخوة أو أقارب من
ناحية الأم, وعشت حياتي كغيري من الأطفال, لكني كلما تقدمت في مدارج العمر
شعرت بأن هناك شيئا ما خافيا علي, وأن هذا الشيء يتعلق بأهل أمي الذين لم أرهم
إلا مرات معدودات طوال طفولتي وصباي, وفي كل مرة التقيت فيها بهم وجدتهم يتحدثون
عن أبي بطريقة تكشف لي عن كراهيتهم له, فأتعجب لذلك وأضيق به في نفسي لأني لا
ألمس من أبي إلا كل حنان وعطف ورعاية لي .. وأتساءل لماذا يكرهونه .. ولماذا
يتجنبون الحضور لزيارتنا ورؤيتي وأنا حفيدتهم الباقية لهم من رائحة أمي "كما
كانوا يقولون لي" .. ووجدت نفسي شيئا فشيئا أشعر بالمرارة تجاه أخوالي وجدي
وجدتي لأمي .. وعتبت عليهم في داخلي مباعدتي وعدم الحرص على زيارتي والاهتمام
بأمري, وكلما فاتحت أبي في ذلك التزم الصمت ولم يزد عن قوله: سامح الله الجميع
ورحم والدتك.
وكان أبي كثير
الصلاة والاستغفار.. وكثير البكاء خلال الصلاة في أحيان كثيرة, وذات يوم سمعته
يناجي ربه على سجادة الصلاة ويدعوه ألا يوحدني في المستقبل كما وحدني في الحاضر
وألا يحاسبني الناس بذنب غيري, وتعجبت لهذا الدعاء الغريب ولم أفهم سره .. ولم
أسأله عنه.. وعشت حياتي معه أتمتع بحبه وحنانه, وأزداد حبا له يوما بعد يوم
وتخطيت مراحل الدراسة وأنهيت دراستي الجامعية منذ سبع سنوات وبعد تخرجي ببضعة أشهر
سألني أبي ذات يوم عما إذا كنت أحبه؟ فأجبته بحرارة, وكيف لا أفعل وهو الذي كرس
حياته لي ورفض أن يتزوج من بعد أمي خوفا علي, ويصر على أن يخدمني بنفسه, وكان
يرفض السماح لي بمساعدته في أعمال البيت لكي أتفرغ لدراستي .. فدمعت عيناه وقال
لي إنه يريد أن يشرح لي أسباب تباعد أهل أمي عنا.. وروي لي أنه نشأ ابنا وحيدا
مدللا لوالديه, وقد أنجباه بعد سنوات طويلة من الزواج فغاليا في حبه والاهتمام
بأمره وتلبية كل مطالبه.. وبلغ من حبهما له أن أصرا على أن يزوجاه في سن مبكرة
لكي يملأ عليهما حياتهما بالأحفاد, فتزوج قبل أن ينهي دراسته الجامعية من أمي
التي كانت في بداية مرحلة الدراسة الجامعية وقتها وأنجباني, غير أنه كان ـ كما
قال ـ سيء السلوك مع أمي وكثير الخلاف وعنيفا للغاية معها ويضربها كثيرا ويحتسي
الخمر, وأنها قد صبرت على احتمال طباعه من أجل ابنتها وبتأثير أبيه الذي كان
يترفق بها ويطلب منها دائما الصبر ويكبح جماح ابنه أحيانا ومضت حياتهما على هذا
النحو, حتى مات جدي لأبي فتفاقمت معاملته السيئة لأمي .. واستولى على ما كان
معها من مال وضيق عليها في الإنفاق وانصرف إلى عبثه ولهوه إلى أن رجع ذات ليلة
مخمورا فنشب بينه وبينها شجار عنيف بسبب استهتاره فانهال عليها ضربا وسبابا,
وتركها وهي تبكي ونام وفتح عينيه بعد ساعات فوجدها مازالت تبكي, وبدلا من أن
يشعر بالذنب تجاهها ويعتذر لها انفجر فيها غاضبا وأمرها بأن تجمع حاجياتها لأنه
سيوصلها إلى أهلها في محافظتهم في التو والساعة لكي يعيدوا تربيتها من جديد,
وامتثلت أمي لما أراد وهي تردد حسبي الله ونعم الوكيل وجمعت أشياءها, وأيقظتني
من نومي وأنا في الخامسة, وركبنا في سيارة أبي وبدأنا الرحلة في الصباح
الباكر, وكانت هناك شبورة كثيفة وأبي مازال رأسه ثقيلا من أثر الخمر وقلة النوم
ففقد السيطرة خلال الطريق على عجلة القيادة, ووقع حادث أليم أصيب فيه الجميع
إصابات مختلفة, ونقلوا إلى المستشفي حيث لفظت أمي أنفاسها الطاهرة.. ونجا أبي
ونجوت معه.
وبعد هذا الحادث
البشع قاطع أهل أمي أبي مقاطعة تامة.. وكانوا على علم بسوء معاملته لأمي فحملوه
مسئولية الحادث, وسدوا قلوبهم في وجهه.. وفشلت كل محاولاته معهم لاسترضائهم
ونيل صفحهم عنه, كما كان هذا الحادث كذلك حدا فاصلا بين مرحلتين في حياته..
فالتزم منذ ذلك الحين دينيا, وأكثر من الصلاة والصيام وقراءة القرآن وأقلع عن
الشراب نهائيا.. وتفرغ لعمله وكرس حياته لتربيتي ورعايتي وعاهد نفسه ألا يتزوج
بعد أمي لكيلا ينشغل عني بشيء, واختتم أبي روايته لي بأن أشار إلى بقايا ندوب
وحروق قديمة في وجهه, وقال لي إنها من أثر هذا الحادث القديم, وذهلت لما سمعت
وتألمت لأن الأقدار قد حرمتني من أن تكون لي أم كغيري من الفتيات, وفهمت سر
مقاطعة أهل أمي لنا وتباعدهم عني وتفاعلت بعض المشاعر داخلي لبعض الوقت, لكن حبي
لأبي تغلب على كل شيء في النهاية.. بل وازددت حبا له وإشفاقا عليه, فلقد لمست
فيه منذ بدأت أفهم الحياة تدينا شديدا وحرصا على الطاعات وإخراج الصدقة الجارية
على روح أمي الراحلة, وبعد تخرجي عملت في عدة أعمال مؤقتة إلى أن استقررت
في عمل مناسب ومنذ سنتين تعرفت بشاب على خلق كريم وأحببته وتقدم لطلب يدي ورحب به
أبي لكني لمحت في عينيه نظرات تعكس معاني كثيرة, فوجدتها فرصة لأن أفاتحه مرة
أخرى في موضوع زواجه لأنني لا أستطيع أن أتزوج وأهنأ بحياتي وأتركه لوحدته الكاملة
خاصة بعد أن ضعف بصره ولم يعد يستطيع قراءة الصحف, لكن أبي رفض ذلك رفضا
قاطعا.. وتمت الخطبة وليس حولي أحد من أهل أمي سامحهم الله.. وازددت انشغالا
بأمر أبي.. فعرضت عليه أن نقيم معه أنا وزوجي بعد الزواج لكي نعتني بأمره بالرغم
من أن خطيبي يملك شقة جميلة وجاهزة, لكنه رفض ذلك أيضا.. وطلب مني عدم التفكير
في ذلك لكيلا يتهم خطيبي بالطمع!
فلم أفاتحه في هذا الأمر مرة أخرى, مع ثقتي في
أنه يعلم جيدا الهدف الحقيقي من هذا العرض وهو أني لا أحتمل تركه وحده بعد
الزواج.
لقد أنهى خطيبي كل استعدادات الزواج وتم شراء الأثاث وكل الأجهزة والمفروشات وأهله
يلحون علي الآن في تحديد موعد للزفاف.. وأنا أماطلهم في ذلك, وكلما عزمت على
الزواج لم يطاوعني قلبي أن أرى أبي محتاجا إلي وأهجره, ومازلت موزعة بين أبي
الذي أحبه حبا جما ولا أستطيع تركه وخطيبي الكريم الذي يحبني وأحبه وأرغب في
السعادة معه, ولست أريد أن أظلم أحدهما فماذا أفعل؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
أتفهم أسباب حيرتك يا آنستي وألتمس لك العذر فيها ولكن هناك بديل آخر لإقامتك مع أبيك بعد الزواج يمكن أن يحقق لك نفس الغرض النبيل الذي تسعين إليه وهو ألا تدعي أباك لوحدته الكاملة وشيخوخته, بغير أن يحرمك ذلك من حقك العادل في السعادة المشروعة.. أو يظلم زوجك الذي سعي للارتباط بك وأحبك ويرغب في السعادة معك..إن والدك يرفض الزواج مرة أخرى ويرى أنه قد فات الأوان لاتخاذ مثل هذه الخطوة ويرفض في نفس الوقت القبول بإقامتك معه بعد الزواج.. ويعلل ذلك بأنه لا يريد أن يستشعر طمع خطيبك فيه أو فيك وهو تعليل لا أحسبه صادقا فيه.. وإنما أظنه أبا حكيما يريد لابنته أن تهنأ بحياتها بغير أن يؤثر عبء رعاية أب شيخ على حياتها أو حياة زوجها استمرارا لتضحيته السابقة من أجلها وإعلاء لسعادتها على اعتباراته الشخصية, ولعله يتحسب لما يمكن أن ينجم عن ذلك من مشاكل افتقاد الخصوصية سواء بالنسبة له أو لزوجك, ومادام الأمر كذلك فإنك تستطيعين الاستقلال بحياتك الشخصية عنه بعد الزواج دون أن يؤثر ذلك على قدرتك على رعايته والحدب عليه والاهتمام بأمره إلا في أضيق الحدود.. وذلك بأن يتخلص خطيبك من شقته الجميلة الجاهزة ويستبدلها بأخرى ملائمة في أقرب مكان من مسكن أبيك, وحبذا لو كان في نفس العمارة التي يقيم فيها أو في الجوار القريب منها.. وبذلك تتعاملين معه بنظرية الاقتراب عن بعد أو الابتعاد عن قرب.. أو وفقا لنظرية القنافذ, التي استشعرت ذات ليلة البرودة الشديدة فاقتربت من بعضها البعض لتستشعر الدفء فأدمتها أشواكها فتباعدت عن بعضها البعض فاستشعرت البرد القارس فعادت للاقتراب بحكمة من بعضها البعض بحيث يتحقق لها الدفء ولا تؤذيها في نفس الوقت أشواكها.
والابنة المحبة العطوف لا تهجر أباها الوحيد حين تتزوج وتنتقل إلى بيت زوجها, وإنما تحمل معها إليه همها بأمر أبيها أينما تكون.. وتستطيع أن تزوره كل يوم, أو يوما بعد يوم ولو لبضع دقائق تطمئن عليه خلالها.. وتدبر له شئون حياته.. وترعى أمره.. وتشعره بوجودها بالقرب منه.. كما تستطيع كذلك أن تقضي عطلة نهاية الأسبوع هي وزوجها معه, وأن تستقبله يوما أو يومين في بيتها كل حين, وأن تدبر له من ترعى بيته خلال غيابها عنه, وبوسائل الاتصال الحديثة تستطيع أن تتواصل معه كل ساعة.. وإن هي إلا شهور وأعوام ثم تنجب له أحفادا يشغلون كل وقته بأجمل الشواغل والاهتمامات..
والزوج المحب العطوف يتفهم بسهولة حرص زوجته على البر بأبيها الشيخ الوحيد الذي كرس حياته لرعايتها ورفض أن يتزوج بعد أمها, ويعينها على ذلك راضيا ومستبشرا بزوجة تؤدي حق أبيها عليها بحب وعطف وعطاء.. ولو تكبدت العناء في سبيل ذلك, ويتوقع منها أن تعينه بدورها على الوفاء بحق أبويه عليه.. وعلى تنشئة أطفالهما على البر والتقوى والإحسان للوالدين وصلة الرحم وكل القيم الدينية والأخلاقية السامية..
فاحسمي أمرك يا آنستي ولا تترددي في تحديد موعد الزفاف وفي جني ثمار الحب والسعادة
والوفاء.. وثقي من أن أباك سيشقى بوحدتك إذا أضعت فرصتك في السعادة, ولن
يهنأ بأيامه وهو يشعر أنه قد حرمك من حقك العادل في الزواج والإنجاب والحب.. بعد
أن حرمتك الأقدار الأليمة من قبل من عطف الأم وحدب الأهل عليك, ولسوف تزداد
سعادته ويتجاوز عناء وحدته المؤقتة في بداية الزواج كلما لمس توفيقك في حياتك
الزوجية وسعادتك بها بإذن الله.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر